إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع من فتن في آخر الزمان

وعن أسامة بن زيد قال: (أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة -أي: على مكان مرتفع من الأماكن المرتفعة في المدينة المنورة -فقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا يا رسول الله.

قال: إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم مواقع القطر)، أي: إني لأرى الفتن تنزل من السماء حتى تتخلل بيوتكم وبين بيوتكم كما يتخلل المطر كل مكان فارغ، فشبّه النبي عليه الصلاة والسلام الفتن في آخر الزمان بالمطر الذي لا يترك مكاناً إلا وعمّه، فتن تأكل الأخضر واليابس، فتن تجعل الحليم حيران لا يدري أين الحق.

وقال صلى الله عليه وسلم: (يتقارب الزمان، وينقص العلم والعمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، قالوا: يا رسول الله! وما الهرج؟ قال: القتل القتل).

انظروا إلى هذا الحديث وهو من علامات الساعة الكبرى، قال: (يتقارب الزمان) أرجح أقوال أهل العلم في معنى قوله: (يتقارب الزمان) أي: تُنزع البركة من الوقت، فالليل هو الليل، والنهار هو النهار، والزمان هو الزمان، والساعات هي الساعات، والناظر إلى أحوال سلفنا رضي الله عنهم -بل المتأخرين من السلف- ليجد عجباً عجاباً كيف حصّل هؤلاء العلم، وكم تعلموا وكيف تعلموا؟ ثم كم صنّفوا من العلم مصنفات تعجز عن حملها الإبل، ولم يبلغوا من العمر أربعين عاماً أو خمسين عاماً، والواحد منا قد بلغ السبعين والثمانين وهو لا يزال يلعب في بوله وبرازه، ولا يعرف أحكام الطهارة ولا ما يُنتقض به وضوؤه، ولا يعرف شروط صحة صلاته، ولا يعرف إذا كان صاحب مال كيف يحج؟ وما هي مقادير الزكاة؟ وهذا علم واجب على كل إنسان.

الشافعي ظهر علمه في الآفاق وانتشر في حياته ولم يبلغ من العمر إلا (54) عاماً، وهكذا كثير من أئمة الدين، وحملة الراية لم يبلغوا نصف قرن من الزمان، مع أننا نعيش ونغط في علمهم وفضلهم حتى قيام الساعة، الواحد منا الآن لو نظر إلى عمر ابن تيمية عليه رحمة الله، ألّف مئات المجلدات من العلم، متى تعلم هذا؟ ومتى كتب؟ مع أنه مشهور بالجهاد أكثر من العلم، ومشهور بحبسه وسجنه أكثر من الجهاد، فكيف تحصّل له كل هذا في عمر قليل؟! والواحد منا ربما يكون الآن قد بلغ ما بلغ ابن تيمية من العمر وهو لا يعرف فروض العين فضلاً عن فروض الكفاية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال: (وينقص العلم والعمل) ينقص العلم بموت العلماء أو بضلالهم، ويقل العمل ويقل الإخلاص، ويقل التوجه والإخبات والإنابة لله عز وجل.

قال: (ويلقى الشح)، مع أن أصول الشح موجودة حتى قبل البعثة، بل الشح أمر فطري مركوز في النفوس والقلوب، وإن كانت العقول السليمة تكرهه، والقلوب المؤمنة تأباه، ولكن أصوله موجودة، فما معنى قوله: (ويلقى الشح) وهو من علامات الساعة؟ قال العلماء: أن يبخل العالم بعلمه فلا يعلمه أحد، وأن يبخل الصانع بصنعته فلا يعلمها غيره، وأن يبخل كل ذو فن بفنه فيضن به أن يعلمه أفراد الأمة، فإذا مات مات معه العلم حتى تبقى الأمة في نهاية أمرها حثالة الأمم، كما نحن الآن.

قال: (وتظهر الفتن) أي: التي لم تكن موجودة في زمن النبوة ولا في صدر الخلافة الراشدة.

قال: (ويكثر الهرج، قيل: وما الهرج يا رسول الله؟!) وهي لغة حبشية: (قال: القتل.

القتل) أكد أن الهرج هو القتل، ولم يكن موجوداً في زمنه ولا بعد زمنه بعشرين عاماً أو أقل من ذلك، ثم ظهر القتل في الأمة إلى يومنا هذا.

وفي رواية قال: (إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل من السماء، ويرفع فيها العلم إلى السماء، ويكثر فيها الهرج) إلى آخر الحديث.

وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم).

(لا يأتي عليكم زمان) أي: لا يمر عليكم يوم إلا والذي بعده مباشرة أشر منه، وهذا مستمر حتى تلقوا ربكم، فنحن في زمان هو شر بالنسبة إلى الأزمنة السابقة، وهو خير نسبياً بالنسبة إلى الأيام المقبلة، فالأمة في نزول حتى تلقى ربها تبارك وتعالى.

وقال عليه الصلاة والسلام: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم) القاعد في الفتنة خير من الذي يقوم ويأخذ سيفه ويقحم نفسه في الدخول في هذه الفتنة، فلو قعد عن ذلك لكان أفضل من القائم فيها، قال: (والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف إليها استشرفته) أي: من تطّلع إليها برأسه وطل فيها أهلكته: (فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ)، فمن وجد منها ملجأ -أي: مهرباً- فليهرب، أو معاذاً فليعذ به، أي: فليلجأ إليه، وليخبئ نفسه مخافة أن يُقحم في هذه الفتنة.

وقال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يكون خير مال المرء -أو قال: المسلم- غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)، يوشك أن يكون أحسن حال المسلم غنيمات يأخذها ويتبع بها قمم الجبال يرعاها؛ ليفر بدينه من الفتن، وهذا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015