أعرض لك في دارك". فقال العباس: "أما إذ فعلت هذا فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع بها عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا". قال: فخط عمر لهم دارهم التي هي لهم اليوم وبناها من بيت مال المسلمين" (?).

ومنه ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان أبو هريرة يحدثنا، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إنّ في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو في صلاة يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه". يقللها أبو هريرة بيده، فلما توفي أبو هريرة، قلت: لو جئت أبا سعيد فسألته؟، فأتيته فسألته، ثم خرجت من عنده فدخلت على عبد الله بن سلام، فسألته، فقال: خلق الله آدم يوم الجمعة، وقبضه يوم الجمعة، وفيه تقوم الساعة، وهي آخر ساعة، فقلت: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال:"في صلاة"، وليست ساعة صلاة. فقال: أوما تعلم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "منتظر الصلاة في صلاة "؟، قلت: بلى، قال: فهي والله هي" (?).

وهكذا نجد أن الصحابة الكرام جعلوا لأنفسهم ضابطاً مهماً في التثبت من صحة الرواية، وهو عرضها على كبار الصحابة وإقرارهم لهذا الحديث، وهكذا يطمأن لسلامة الرواية من احتمالية الخطأ الذي قد يقع فيه الراوي.

الضابط الخامس: عرض الرواية على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -.

مرّ معنا سلفاً سؤال بعض الصحابة الكرام لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - ومعاودة الاستفسار في كثير من الروايات، وهذه الاسئلة في مسائل قد تكون مما يختص به أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، وقد لا تكون من كذلك.

أما في هذا الضابط فإننا نسلط الضوء على مسألة عرض الصحابة الكرام رواية ما أو حادثة ما على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون الأمر مما يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته الزوجية أو الأسرية، أو أنّ هذه الحادثة مما يختص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يطلع عليها أحد إلا أزواجه.

وهذا لا يعني أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ هذا الحكم أو هذه المسألة للناس، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ كل الدين، وعرف الناس دقائق حياتهم، لكن قد يقع في مسألة ما حديثان متعارضان ظاهراً أو من قبيل الناسخ والمنسوخ، فيسمع صحابي حديثاً دون حديث، فيختلف مع صحابي آخر حدث بخلاف ما يعرفه، فيلجأ الصحابة إلى بعضهم البعض إذا كان مما يشتهر، وربما سألت زوجة من زوجاته - صلى الله عليه وسلم - أحد أصحابه - صلى الله عليه وسلم - عن مسألة وقعت ولم تشهدها، أو ترسل زوجة منهن سائلاً يسألها إلى غيرها من الصحابة، كما سبق من إرسال أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سائلها إلى علي بن أبي طالب، معللة ذلك كون السؤال يتعلق بسفر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليّ - رضي الله عنه - أعرف منها؛ لأنّه أكثر ملازمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في سفره.

إذن فالصحابة الكرام ضبطوا الخلاف في الروايات الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته الزوجية بالاحتكام إلى ازواجه فهنّ أعرف به، ولاسيما أفقه النساء وسيدتهن، الطاهرة المطهرة أم عبد الله عائشة، فلولاها -بعد الله تعالى- لضاع علينا كثير من أمور النبي - صلى الله عليه وسلم - فجزاها الله عنا خير الجزاء، ولعن مبغضها ومؤذيها، ومؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فهي أعلم نسائه، وأحبهن إليه - صلى الله عليه وسلم -.

والحقيقة أن المتتبع للتاريخ بشكل متجرد، يجدها من رؤوس فقهاء الصحابة، وعليها مدار واسع في الفقه، قال مسروق: "رأيت مشيخة أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الأكابر يسألونها عن الفرائض" (?).

وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة" (?).

قال محمود بن لبيد:"كان أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يحفظن من حديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ولا مثلاً لعائشة وأمِّ سلمة، وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أنْ ماتت، يرحمها الله، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر وعثمان بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السنن» " (?).

وقال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -:" ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلاّ وجدنا عندها فيه علماً" (?).

وقال الزهري: "لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل" (?).

وبالطبع فلا يقتصر هذا الضابط على السيدة عائشة، فقد روي عن غيرها من أمهات المؤمنين، وكذا لا يقتصر أمر سؤالهنّ على قضايا أسرية (فقه الأسرة)،كما نلحظه في طيات هذا البحث.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015