تعالوا بنا إلى السورة التي كنا نسمعها في الركعة الثانية مع أخينا إمام المسجد، كان يقرأ من سورة الإنسان قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1]، إلى قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5].
الأبرار: جمع بر أو بار، والبار هو البار بدينه، والبار بوالديه والبار بولده والبار بالمسلمين عامة، والبر: كلمة تجمع الخلق الحسن، فكل ذي خلق حسن بار، وهي صفة من صفات الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28].
وبر الوالدين معروف، لكن كيف أبر ولدي؟
صلى الله عليه وسلم بأن أعلمه القرآن وأجعله يستقيم على طريق الله وأبعده عن الأولاد السيئين، وأبر بابنتي فأول ما تصل إلى سن البلوغ أعلمها الحجاب، وأبر بزوجتي فأحسن إليها وأراعيها في أيامها التي لا تصلي فيها للعذر الشرعي في كل شهر، وأعاملها معاملة الأطفال، وذلك لأن تركيبها مختلف عن تركيب الذكر، هذه هي طبيعتها والله عز وجل خلقها هكذا، فالأيام التي لا تصلي فيها زوجتك تعاملها معاملة الأطفال؛ لكي لا نجعل للشيطان مكاناً فيدخل ويفرق، فهذا الشيطان ولد من أبناء إبليس عمله التفرقة بين الزوجين وخلق المشاكل بينهما، ولذلك كان يدرسنا أستاذ رحمة الله عليه، فكان أول ما تقول له امرأته: اسمع يا هذا! يقول: يا إلهي! هل اشتغل الشيطان الذي يفرق؟ قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5].
والمزاج هنا ليس معناه المزاج الذي في الدماغ، بل هو ماء طعمه ممزوج بالكافور، وقلنا: إن هذا مجرد اسم فقط.
قال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] كيف هذا؟ إن ساكن الجنة وهو يمشي في ملكه في الجنة، إذ يقول الله للجنة: طوبى لك منزل الملوك، فكل واحد في الجنة ملك، ولذلك فإن الملائكة تعطيك قضيباً من زبرجد، فأنت في الدنيا تعتمد على عصاً فيها شوك وحالتها سيئة، من أجل أن تنهض لصلاة الصبح والكلاب تنبح وأنت تمشي وتضرب وتعكز عليها، لكن في الجنة قضيب ليس له مثيل، قال: ويمشي بها على الأرض، فيخط خطاً ويخرج له نهر من عسل مصفى، ويخط ثانية فيخرج له نهر من لبن، ويخط ثالثة يخرج له عين وهكذا قال: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] فهو الذي فجرها وهو يمشي، ثم إنها تتفجر ولا تغرقه، (قال: يا رسول الله! هل يعقل أن تمشي من دون مجرى؟ قال: سبحان الذي سكبه وسبحان الذي حده) فلا نهر النيل، ولا الذي يرمون فيه حميراً ميتة وجاموساً ولا بقايا مصانع، بل هو ماء غير آسن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل مصفى، كل هذا نعيم أهل الجنة، قال تعالى: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا)) أي: منها: ((عِبَادُ اللَّهِ)) اللهم اجعلنا منهم يا رب! ((يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)).
قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] فهذه أول صفة، والنذر ما فرضه الله عليك، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] إذاً: النذر: الفرائض التي فرضها الله، لأن الذي يزحزحك عن النار إقامة الفرائض، ثم الذي يدخلك الجنة إقامة النوافل، يعني: الذي يزحزحك عن جهنم هي الفرائض، والذي يقربك ويرفعك إلى الجنة هي النوافل، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
اللهم اجعلنا منهم يا رب! والمعنى الآخر للنذر: ما نذرته أنت على نفسك في الطاعات، فتقول: إذا نجح الولد أو دخلت البنت الهندسة فإنني سأصوم خمسة عشر يوماً.
ولكن أنا سأوصيك كأخ مخلص أن تصدق في الوفاء بالنذر؛ لأن المصري متردد، في وقت الضيق يقول: أصوم شهرين، وأذبح خروفين وجاموسة وبقرة، ثم بعد أن يحقق الله له ما طلب يقول: يا شيخ! ألا تنفع الدجاجة؟! تنذر بالجاموسة ثم تقول: دجاجة؟! ألست كنت وقت النذر سخياً بالطاعات.
قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، المستطير أصلها: من تطاير الشرر، ولا تقال إلا في الخطر، يقال: استطار الشر يعني: تطاير وبدأ، فشر يوم القيامة مستطير، لأن الله عز وجل يقول: يا جبريل! ائتني بجهنم، قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لها سبعون ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك) لها فحيح كفحيح الأفاعي، انظروا وتأملوا إلى صوت جهنم والعياذ بالله، فأول ما أن يراها عباد الله الصالحون والطالحون يهربون من أرض المحشر، فيجدون الملائكة محيطة بهم، قال تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]، يعني: محيطين بأرض المحشر.
وأرض المحشر ليس فيها حفرة تختبئ فيها، وليس فيها تل تختبئ وراءه، قال تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:106 - 107]، ولذلك دائماً نقول: الدار الآخرة ليس فيها كلام من عندنا، بل كله من كتاب الله ومن السنة الصحيحة، فلا نستطيع أن نأتي بكلام من عندنا.
إذاً: الملائكة تقوم بشد زمامها وتقوم بتوقيفهم، وتخرج من جهنم أعناق والعياذ بالله! فما من نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا عبد صالح إلا ويجثو على ركبتيه، قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28]، أي: جثا الإنسان على ركبتيه فوقع بأكمله على الأرض، والذكي جداً الذي يرفع نظره قليلاً وينظر من طرف خفي هل هي آتية أم أنها وقفت؟ فإذا اطمأن أن الملائكة أمسكوا بأزمتها، يبلغ الذي وراءه ويقول: وقفت، قم ارفع رأسك.
ولجهنم زفرة ثالثة، والزفرة الثالثة أصعب، فيأخذ سيدنا موسى بقوائم العرش، وينسى الخليل إبراهيم إسماعيل وينسى موسى هارون، وينسى عيسى مريم، وكل يقول: يا رب سلم! يا رب سلم! فيوم القيامة شره مستطير.
فالمرة الثالثة الملائكة تمسك أبداً، فيقوم لها الحبيب المصطفى، كما قال الشاعر: إن العظائم كفؤها العظماء.
فيقول: عودي يا نار الجبار إلى مكانك، فتقول النار: إليك عني يا محمد! فما وكلت بك ولا بأصحابك، فيقول الله عز وجل: يا نار! اسمعي لمحمد وأطيعي، فتخرج منها أعناق تلتقط بنيها كما يلتقط الطير الحب؛ ولذلك يقال: ذهب إلى أمه الهاوية: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10 - 11]، ومعلوم أن الأم في الدنيا تأخذ ولدها في حجرها بحنان، فتخيل أن شخصاً أمه جهنم، ألا يكون شره مستطيراً؟ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.
إذاً: أول صفة من صفات عباد الله أنهم يوفون بالنذر، ثم يخافون من الله يوم القيامة، فأنت عند أن تأتي إلى شخص منحرف فتقول له: اتق الله، فيقول: قلبي أبيض، ويقول: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة).
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8]، فهم ينفقون الأكل في سبيل الله، لذلك قلت قبل ذلك: لا تتصدق بالأكل بعد أن يتلف، أي: بعد سبعة أيام، ولكن تصدق يوم أن تطبخ، واغرف للمسكين عندما تغرف لنفسك، وعندما تشتري قميصاً لك اشتر قميصاً للمسكين، ولا تكن كمن قال الله تعالى فيهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62].
إذاً: أخرج من أفاضل ما لك من الشيء الجيد؛ كي يقع ما أخرجته في كف الله عز وجل، فهؤلاء: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، ولا يمنون عليهم قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9].
كان رجل ثري جالساً بجانب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فمر به فقير فلم إليه العباءة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أخفت أن يعدو عليه غناك، أم خفت أن يؤذيك فقره، فقال الرجل الثري: نزلت له عن نصف مالي يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تأخذ نصف ماله؟ قال: لا يا رسول الله! فقال: لماذا؟ قال: أخاف أن يدخلني من الغرور ما دخله.
فالمال سمي مالاً لأنه مال بالناس عن الحق، فاحذر أن ترى لنفسك فضلاً، فالفضل لله وحده.
قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، يقال: العبوس يكون في الشفتين، والقمطرير يكون في الجبهة، فإنه يكون مكشراً جداً.
ذكر أن سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج كان كلما مر على ملك من الملائكة يقول: السلام عليكم، فيرد الملك السلام ويتهلل فرحاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه ملك الموت وهو مكشر، فقال صلى الله عليه وسلم: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا ملك الموت ما ابتسم منذ أن خلق.
قال تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11].
النضرة الأولى: غاية النور، ثم نقاء السريرة، ثم الحسن والبهاء.
قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:12]، لماذا؟ لأنه حرمه عليه في الدنيا، فقال له: انتبه أن تلبس في الدنيا، ومادام أنك لم تلبس في الدنيا فسنلبسك في الجنة، وقد وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا مناديل من الحرير اليماني، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يلبسون لبساً خشناً، فعندما لمسوا الحرير قالوا: سبحان الله! ما أنعم ملمس هذا الحرير يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أنعم ملمساً من هذا الحرير.
قال تعالى