أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد: نعود مرة ثانية إلى ما كنا قد توقفنا عنده، ونحن اليوم بمشيئة الرحمن مع الحلقة التاسعة والعشرين، وهي الحلقة الثامنة في الجنة.
فاللهم اجعل الجنة مآلنا ومكاننا ومنزلنا يا رب العالمين! ارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، لا تجعل لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، وإلا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا مسافراً إلا أرجعته غانماً سالماً لأهله.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، اللهم زين الإيمان في قلوبنا اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا يا رب الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا مولانا من الراشدين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم تب على العصاة والمذنبين، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: توقفنا في الحلقة الثامنة والعشرين عند الحديث عن أهل المعروف جعلنا الله وإياكم من أهل المعروف في الدنيا والآخرة.
اتفقنا من قبل أنك تستطيع بمقياس إن أعطيناه لك أن تعرف هل هذا المعروف الذي تصنعه خالص لله أم أنه ابتغاء الشهرة؟! مثلاً: فلان من الناس صنعت له معروفاً عند إنسان وكررت معه المعروف، كأن وظفت ابنه، أو زوجت له ابنته، وعينته في منطقة جيدة، ووقفت معه في وقت الضيق؛ وقفت معه في مرض امرأته وتعب أولاده ونقل ابنه من المدرسة وو إلى آخره، ثم رد عليك هذا الإنسان في عمل ما برد سيئ، بأن قال لك: إنك مكلف أن تعمل هذا الفعل! فأنت غضبت، وأخذت في قلبك عليه، لك أن تغضب، لك أن تتغير، لكن ليس لك أن تمن عليه، فعندما تقول لك نفسك: ما هذا الرجل؟ أيعض اليد التي امتدت له؟! إن لحم كتفيه من خيري، ألسنا كلنا نقول ذلك؟! إذا قلت ذلك فثق تماماً أن كل ما صنعت ليس لله؛ لأنك لو عملت الشيء لله فإن رد عليك بخير أو رد عليك بشر أو لم يرد فالكل عندك سواء، كيف كان يتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس؟ كان يحسن إليهم ويراعيهم، فهاهم أخرجوه من مكة، ثم بعد ذلك أرادوا أن يدبروا له مكيدة للقتل مع الترصد والتعمد وسبق الإصرار؛ وقفوا على بابه صفين حتى صلاة الصبح يريدون أن يضربوه ضربة رجل واحد، ويضيع دمه في القبائل، وقبل ذلك كانوا يأتون بسلى الجزور - التي هي كرشة الجمل المنتنة - ويضعونها على ظهره الشريف وهو يصلي في المسجد الحرام.
ثم بعد ذلك آذوا أصحابه؛ فكانوا يجرون بلالاً على الرمضاء في شدة الظهيرة في مكة، ويضعون عليه الصخر ويجرونه على الأرض ويضربونه بالسياط، وهو لا يمتنع عن قوله: أحد أحد، وأبو بكر الصديق ضربته قريش حتى كان عقبة بن أبي معيط يحرف نعله ويميل بكعبها من أجل أن يأتي الكعب في وجه أبي بكر أو في عينه، حتى استوى وجه أبي بكر بجسمه من شدة الضرب، حتى إنه عندما عاد إلى البيت لم تعرفه امرأته ولا أمه! وقتلوا سمية أم عمار من شدة التعذيب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة).
ثم جاء يوم الفتح فوقفوا أذلاء بين يديه صلى الله عليه وسلم، قال: (ما تظنون أني فاعل بكم؟) أي: ماذا سأفعل بكم؟ آلمتمونا وضربتمونا وطردتمونا، وذهب أصحابي إلى الحبشة ورجعوا منها، وبعدها ذهبوا المدينة ذهبتم وراءهم، ورصدتم مائة ناقة مكافأة للذي يأتي بمحمد حياً أو ميتاً: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: لا أقول لكم إلا ما قاله يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء).
هل لنا في رسول الله الأسوة الحسنة؟ هل لنا أن نتعامل هذه المعاملة الطيبة مع الناس؟! تعامل هكذا مع امرأتك يا أخي! مع أقاربك، مع إخوانك الذين أكلوا ميراثك، إنهم أخرجوه بسبب أنه يقول لا إله إلا الله، وأنه ينشر دعوة الله عز وجل، قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] لا أقول: أعطوني، ولكن الغرض أن تسمعوا أنتم وتقولوها، وإذا نطقتم بها أفلحتم، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا دنيا وأخرى.
ذهب إليه الوليد بن المغيرة وكان من علية القوم وقال له: يا ابن أخي! لقد جئت قومك بما لم يأت به أحد من قبلك؛ فرقت بين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، إن كان هذا الذي يأتيك رئيٌ من الجن جئنا لك بالأطباء، فسعوا في شفائك، وإن كانت هذه الحالة حالة مرضية نبحث لك عن العلاج، وإن كنت تريد المال جمعنا لك المال فصرت أغنانا، وإن أردت أن تكون ملكاً علينا ملكناك، فكان سيدنا الحبيب عنده سعة صبر، فقال له بأدب النبوة: (أفرغت يا عم؟) لأنه في سن والده، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) قال: نعم، فتلا عليه الرسول سورة السجدة وبعد أن انتهى ووصل إلى آية السجدة سجد، والوليد كان من أعرف الناس باللغة، فمن شدة إعجابه بالقرآن وضع يديه خلفه وأنصت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى درجة أنه كان من شدة التركيز مقطباً عن جبينه، يريد أن يتأكد ويستجمع كل فكره وأعصابه وعقله، وبعد أن انتهى رجع والتقى بعظماء قريش كـ أبي جهل وأبي لهب قالوا: والله لقد عاد إليكم الوليد بوجه غير الذي ذهب به عنكم، يعني: وجهه غير الوجه الذي عهدتموه فقال: يا معشر قريش! أتقولون: إنه كاهن والله ما هو بكاهن، فأنا أعرفكم بسجع الكهان، أتقولون هو شاعر؟! والله ما هو بشاعر، أنا أعرفكم بالشعر، أتقولون مجنون؟ والله ما هو بالمجنون، إن لكلام محمد لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما هو بقول البشر، قالوا له: إنك صبأت بهذا القول وإنك تريد أن تقول لك قريش: دخلت مع محمد وأصحابه، وإنك لن تخرج من هذا الموقف حتى تقول كلمة سيئة لمحمد، فقال: إن كلامه لسحر مستمر؛ فينزل جبريل بآيات من كتاب الله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] كان يسمى الوليد بالوحيد؛ لأن قريشاً تكسو الكعبة سنة، والوليد وحده يكسو الكعبة السنة التي تليها، قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر:11 - 13] أعطاه الله أحد عشر ولداً من مثل خالد بن الوليد، كان يمشي في المواكب والأحد عشر يمشون وراءه وهو أمامهم مفتخراً! قال تعالى: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:15 - 16].
ثم يصف القرآن الجلسة قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:18] إنه قدر الكلام وفكر فيه.
قال تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] الصعود: جبل في جهنم يوضع فيه كل جبار عنيد كان يتجبر على عباد الله في الدنيا، يظل الوليد وأمثاله يتسلق الجبل حتى إن يديه ورجليه تحترق وتذوب من شدة النار، فإذا وصل إلى رأس الجبل من فوق انهار به الجبل في قعر جهنم! وهكذا أبد الآبدين! إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان واسع الصدر، وكان يصنع المعروف في الناس ولا ينتظر خيراً، جاءه رجل ولمح حب الرجل للمال، والرجل كان زعيماً في قومه، وهو يمشي في غزوة حنين بعدما انتهت الغزوة نظر إلى غنم بين جبلين عددها بالآلاف، فقال: ما أكثر هذه الغنم يا محمد! قال له: هي لك خذها، فرجع إلى قومه وقال لهم: اذهبوا فآمنوا بمحمد؛ فإنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، إنه يعطي ولا يخاف ما يحصل غداً، يعطي وهو متوكل على الله، فأسلم وراءه عشرون ألفاً.
إذاً: كان يصنع المعروف ولا ينتظر رد الجميل، فأنت إن صنعت المعروف في إنسان ورد عليك رداً سيئاً فحزنت، فأنت ما صنعت المعروف ابتغاء مرضاة الله، إن عملت المعروف لأقرب الناس كزوجتك تحسن إليها فتقطب الجبين في وجهك وأنت تبتسم، أو ترميك بالكلام وأنت تقول: بارك الله فيك ربنا يكرمك إن شاء الله ويشرح صدرك، وهي تغاظ؛ فهذه المرأة تشتكي تقول: زوجي يا أستاذ أعصابه باردة جداً، نقول: يا أختي! احمدي الله على ذلك، تقول لك: لكنه يغيظني، لا إله إلا الله إنه لو كان مثلك حاداً لاشتعلت بينكم النار، لكن من فضل الله أنه وضع على النار الماء، لكن ليس من تحت التبن.
إن الرجل مسكين يأتي البيت يريد أن يستريح ويريد أن ينام؛ ليرتاح من عناء العمل فيريد منها أن تسنده وتوصله إلى فراشه، وهي تريد أن تفتح معه موضوعاً عاماً، وموضوع الولد والبنت، والرجل يتغابى: ليس الغبي بسيد في قومه بل إن سيد قومه يتغابى هل هذا يعقل؟! تقول له: يا رجل! إنني كلما أفتح لك موضوعاً تقفله! هو متعب لا يريد أن يستجيب لكلامها، رأسه يؤلمه يريد أن ينام يقول لها: نعم، إن شاء الله ربنا يسهل، فالمرأة تكون سريعة الغضب، ومن فضل الله أن زوجها طباعه باردة، وهي مثل القط الذي يحب خناقه - تريد أن تثير المسائل والخلافات.
فمن فضل الله ع