رحلة الإنسان إلى قبره

الحمد لله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده.

وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد: فهذه بمشيئة الله عز وجل: هي الحلقة الرابعة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، وهي الحلقة التي تخص الأسباب الموجبة لعذاب القبر، والأسباب المنجية من عذاب القبر.

فاللهم نجنا من عذاب القبر يا رب العالمين! واجعل هذه الجلسات خالصة لوجهك الكريم.

اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.

اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً لأهله.

واجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد: تحدثنا في الحلقة السابقة عن الوصية التي يجب أن يكتبها المسلم، وقلنا: إن من لم يكتب وصيته قبل أن يموت فلن يؤذن له بالحديث مع أهل القبور، ومن لم يكتب وصيته قبل أن يموت فسيحاول أن يكلم الناس يوم القيامة ولن يكلموه؛ لأن الملائكة سوف تخبر الناس أن هذا قد مات ولم يكتب وصيته.

إذاً فكتابة الوصية أمر بمنتهى الأهمية، وكتابة الوصية أمر يجب ألّا يغفله المسلم، ويستوي في هذا من عنده مال ومن ليس عنده مال، فهي وصية لا تخص المال في كثير الأمر ولا قليله، ولكن الوصية تخص كيفية الغسل، والبراءة من أي شيء يقال في الشرع الحكيم في قليل الأمر أو كثيره: من مسألة الدفن، واستقدام من يأتي ليقرأ على الميت سواء على القبر أو في البيت، أو الكلام الفارغ من المسلمين، وما زالت قلة الأدب سارية بني المسلمين في بدع الجنائز، من ذبح أمام النعش، إلى المغالاة في الكفن، والإتيان ببعض الناس من أجل قراءة ختمة أو ما يسمى بالعتاقة، كل هذه بدع لم يأذن الله بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن مسألة دواوين العزاء، والمقرئين المحترفين الذين ليس لهم عمل إلا أنهم يبتزوا أموال الناس تحت عنوان قراءة القرآن، وكل واحد يظن أن هذا القرآن يصل إلى الميت، وهذا غير صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) وتجد مثل هذه المناسبات للأسف الشديد في المساجد، وفيها من المنكرات ومن البدع ومن السرقات والبلايا ما يغضب الله عز وجل، وما لا يستطيع الإنسان حصره تحت بند واحد أو عدة بنود، ولكنها عناوين كثيرة للبدع، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوب علينا وعليكم، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.

وكما قال لنا أهل العلم: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، يعني: إذا عملت السنة في أضيق الحدود أحسن لك من أن تجتهد في أمر بدعي؛ فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والعياذ بالله رب العالمين، وأهل البدع كلاب جهنم، يعني: كل مبتدع في الدنيا ويؤلف في الدين على ما يريد، فإنه يأتي ينبح على أهل النار في النار والعياذ بالله، فأنصح نفسي وأنصحكم بالبعد عن البدع جعلنا الله وإياكم من المحاربين للبدع، ولأهل البدع، ومن القائمين على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

فيأتي ملك الموت لقبض روح العبد، فيصبح الواحد منا -بعد أن كان في عداد الأحياء- صار في عداد الأموات، فيتحلل البدن ويعود إلى ما جاء منه وهي الأرض، قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55]، إذاً الرجوع مرة أخرى يكون إلى الأرض التي خلقنا أو كوِّنا أو أنشئنا منها.

فأول ما يدخل العبد القبر إذا كان -والعياذ بالله- عاصٍ، فإن القبر يقول له: (لقد كنت فرحاً وأنت على ظهري، فسوف تصير اليوم حزيناً وأنت في بطني، كم أكلت وأنت على ظهري من الألوان) أي: ألوان الطعام والشراب، (فاليوم يأكلك الدود في وأنت في بطني، لقد كنت تسير على ظهري -في الدنيا- وأنت أبغض عباد الله إلي، فاليوم ترى صنيعي بك)، ويضمه القبر ضمة تختلف فيها أضلاعه والعياذ بالله.

وإذا كان العبد صالحاً فإن القبر يقول له: (يا عبد الله! لقد كنت أحب عباد الله إلي وأنت على ظهري، فسوف ترى صنيعي بك، فينفتح له القبر مد البصر، فيرى مقعده من الجنة) اللهم اجعلنا منهم يا رب العباد، واختم لنا بخير، آمين يا رب العالمين، ولا تجعل الدنيا ولا الشيطان ولا الأولاد يلهونا عن عبادتك يا رب العالمين.

فعندما ينتزع ملك الموت الروح، ويحملك أهلك على الأكتاف، هنا انتهت المسألة كلها، فإن كنت في الدنيا تعادي وتحارب وترفع قضايا، تختلس وتناقض وتكذب وتنحرف، فقد جاءك من لا مهرب منه ولا انفكاك.

وهنا يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24]، يا ليت الدنيا ما غرتني، ولا الأولاد، ولا الزوجة التي كانت تكلفني فوق الطاقة، ولا أخي وأختي وخالي وعمي الذين قاطعتهم من أجل الشيطان الذي غرني وقطعني عن أهلي وعن أحبابي، وعن أقاربي وعن إخواني، وعن كل من أمرني ربي أن أصله.

وقد يضيق صدرك بأمور شتى: أمور العيال، وقلة ذات اليد، وغيرها من الهموم، وما من هم أنزلته بالله إلا وزال؛ لأنك أنزلته بمن يقول للشيء كن فيكون، وإذا أنزلت الهم بالناس ما زادك الناس إلا غماً وهماً.

لكن إن أنزلت الأمر بالله زال، قل: اللهم اشرح لي صدري، رب يسر لي أمري، رب وفقني، رب أذهب عني بلايا الدنيا وابتلاءاتها، فربنا أقرب إليك من حبل الوريد، ولعلكم تذكرون شوقي أمير الشعراء لما كان يخاطب الذين يرفعون الأثقال فيقول: إن الذي خلق الحديد وبأسه جعل الحديد لساعديك ذليلا زحزحته فتخاذلت أجلاده وطرحته أرضاً فصل صليلا لمَ لا يلين لك الحديد ولم تزل تتلو عليه وتقرأ التنزيلا؟ قل لي نصير وأنت بر صادق أحملت إنساناً عليك ثقيلا أحملت ديناً في حياتك مرة أحملت يوماً في الضلوع غليلا؟ أحملت في النادي الغبي إذا التقى من مادحيه الحمد والتبجيلا أحملت مناً بالنهار مكرراً والليل من مُسدٍ إليك جميلا تلك الحياة وهذه أثقالها وُزِنَ الحديد بها فعاد ضئيلا فكل هموم الحياة عندما يوزن الحديد بها فإن الحديد يصبح خفيفاً، وما أثقل صحبة الثقلاء! وصحبة البعيدين عن رحمة الله عز وجل، ولذلك المؤمن عندما تصاحبه فإنه كالنحلة، إن أكل أكل طيباً، وإن أطعم أطعم طيباً، وإن وقف على عود لا يخدشه ولا يكسره.

مات منصور بن عبد الله، وهو أحد تابعي التابعين وهو رجل صالح، فرآه ابنه في المنام، فقال له: أبت ماذا صنع الله بك؟ قال: يا بني! سألني: يا منصور! بم جئت؟ يا رب جئتك بست وثلاثين حجة، قال: ما قبلت واحدة منها، ثم قال له: بم جئتني يا منصور؟! قال: جئتك بثلاثة آلاف وستين ختمة، قال: ما قبلت واحدة منها.

ثم قال له: يا منصور! بم جئتني؟ قال: يا رب! جئتك بك، قال: لقد جئتني فغفرت لك.

لا إله إلا أنت صاحب الفضل، إن قبل فتكرماً، وإن رد فعدلاً؛ لأن ربنا لو تكرم علينا وغفر لنا فإن ذلك بكرمه، يا كريم! أكرمنا يا رب العباد! وسيدنا عطاء بن أبي رباح لما أفاض من عرفات أخذته سنة عند المشعر الحرام قبل الفجر، فرأى في المنام ملكين يقول أحدهما للآخر: كم حج البيت هذا العام؟ أي: كم عدد الحجاج؟ فقال له: ستمائة ألف، قال له: وكم قبل ربنا منهم؟ قال له: ما قبل إلا من ستة، فقام سيدنا عطاء مرعوباً، ونحن للأسف الشديد لو أحدنا رأى الرؤيا هذه فإنه يمني نفسه ويقول: أنا من الستة، والصالح من اتهم نفسه، فما يزال الرجل يتعلم ويتعلم، فإن ظن أنه علم فقد بدأ يجهل.

فقام سيدنا عطاء مرعوباً من الرؤيا فقال لمن حوله من الناس، وكان حوله كثير من الناس: ألحوا على الله بالدعاء في أيام الحج، اجئروا إلى الله بالدعاء.

وفي آخر يوم في منى أخذته سنة من النوم، فلقي نفس الملكين وكان أحدهما يقول للآخر: كم حج البيت هذا العام؟ فقال له: ستمائة ألف، قال له: وكم قبل الله منهم؟ قال له: ما قبل الله إلا ستة، قال له: لكن هذا قليل! قال: لكن ربنا الكريم أعطى مع كل واحد من الستة مائة ألف.

والسماء لم تبك على الكافر الفاجر المجرم، ولن يدخل الجنة {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فلو أن الجمل دخل في خرم الإبرة فإن الكافر حينئذ سيدخل الجنة، والقضية أن الجمل لن يدخل في ثقب الإبرة إذاً فلن يدخل الكافر الجنة.

إذاً فالذنوب نوعان: نوع ستحاسب عليه في القبر، ونوع ستحاسب عليه أمام الله يوم القيامة، فإما أن يعفو الله عنك تكرماً وتعطفاً ومنة وفضلاً منه، وإما أن يأخذك بجريرتك فيحاسب على صغير الأمر وكبيره.

فالصحابي الذي استشهد في إحدى الغزوات كان الصحابة يقولون له: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! وكان أحد خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لو ترون ما أرى لرأيتم قبره وقد اشتعل عليه ناراً، فقالوا: لماذا يا رسول؟! قال: من أجل شملة قد غلها بدون وجه حق) يعني: وهو يحارب، وبعدما انتصر المسلمون أخذ شملة -مع أن الجندي له جزء من الغنائم- لكن أخذه بدون إذن القائد أو الموزع، أو بدون إذن حبيب الله صلى الله عليه وسلم، فلما غل الشملة بدون وجه حق اشتعل القبر عليه ناراً.

قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]، والغُل هو الطوق الذي يوضع في الرقبة والغُل غير الغِل، فالغِل هو الحقد أو الفوران النفسي نتيجة الغضب، وهذا غير الغ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015