تعال الآن ننظر في وصيتين: وصية سيدنا أبي بكر، ووصية الحجاج بن يوسف، ونقارن بين كلام هذا وكلام هذا.
لما شعر أبو بكر بدنو الأجل قالوا له: يا أبا بكر أفلا نطلب لك الطبيب؟ قال: قد جاء، قالوا: وماذا قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد.
ثم قال: نادوا عمر بن الخطاب، وبعد ذلك كتب: هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة ولم يكتب هذا ما أوصى به أبو بكر الصديق ولا سيادة اللواء فلان أو المستشار فلان أو الدكتور فلان، لا، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة.
وهذا أبو الحسن الشاذلي رحمه الله لما مات ورآه تلميذه في الرؤيا قال له: ماذا صنع الله بك؟ قال له: راحت تلك الإشارات، وضاعت تلك العبارات، وتاهت هذه الألقاب، وما نفعنا إلا ركيعات صليناها في جوف الليل والناس نيام.
فسيدنا أبو بكر قال: هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وفي أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، أني أولي من بعدي فأخذته لحظة من الغيبوبة، والذي كان يكتب هو عثمان بن عفان، ولو كان غير عثمان لكتبها لنفسه، لكنه كتب عمر بن الخطاب، فرجع إلى أبي بكر عقله وفاق من غيبوته فقال: رد علي ما كتبت يا عثمان، قال عثمان: كتبت: إني أولي عليكم من بعدي عمر بن الخطاب قال أبو بكر: عجباً أوحي بعد رسول الله؟! فكان عمر هو الذي أراد أبو بكر أن يوليه الخلافة من بعده، وبعد أن كتب عثمان الوصية أمره أبو بكر أن يخرج إلى المسجد ويقرأ على المسلمين وصية أبي بكر، فقرأ عثمان على المسلمين ما أملاه عليه أبو بكر، فأقام بعض الناس ببلبلة وقالوا: إن عمر كان عنيداً علينا والرسول صلى الله عليه وسلم بيننا، وكان عنيداً علينا وأبو بكر بيننا، فما بالك لو صار الأمر إليه.
ماذا سيعمل بنا؟! فدخل عثمان ونقل رأي الشعب للخليفة، وأنهم معترضون، فقال سيدنا أبو بكر: أجلسوني، فلما جلس قال: أتخوفونني بالله؟ إن سألني الله يوم القيامة وقال لي: يا أبا بكر من تركت على عيالي؟ أقول: يا رب، تركت على أهلك خير أهلك، تركت عليهم من قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (عش حميداً، والبس جديداً، ومت شهيداً)، وقال فيه: (أول مؤمن يأخذ كتابه بيمينه عمر بن الخطاب) وقال فيه: (لو كان بعدي نبي لكان عمر)، وقال: (الحق بعدي ما كان عليه عمر)، وقال فيه: (ما رآك الشيطان سالكاً في طريق يا عمر إلا وسلك طريقاً آخر).
كل هذا ولا تريدون أن أجعل الخلافة لـ عمر بن الخطاب! فاقتنع الحاضرون بغير قهر.
ثم قال: يا عمر، إن لله حقاً بالليل لا يقبله في النهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله في الليل، وإن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقل عليهم ذلك، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخف عليهم ذلك، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف يوم القيامة، ثم قال: ألم تر يا ابن الخطاب أن الله أنزل آية الرجاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرجاء؛ لكي يكون العبد راغباً راهباً يلقي بيده إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله غير الحق، فإن أنت حفظت وصيتي، فلا يكونن غائب عليك أحب من الموت، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت.
ثم ننتقل إلى الحجاج، لقد مات في سجن الحجاج (90000) مسلم، وقتل (14000) مسلم بدون جريرة، وتعال إلى حالة الحجاج عند موته؛ من أجل أن تتعظ إن كنت تريد أن تموت مثل موت أبي بكر الصديق أو مثل موت الحجاج والعياذ بالله ولا أحد يريد أن يكون هكذا.
نظر الحجاج إلى السماء عند موته وقال: إن ذنبي وزن السماوات والأرض وظني بربي أن يحابي فلئن منّ بالرضا فهو ظني ولأن مر بالكتاب عذابي لم يكن منه ذاك ظلماً وبغياً وهل يهضم رب يرجى لحسن الثواب؟ وكتب آخر كلام له للوليد بن عبد الملك يقول له: قد كنت أرعى غنمك، وأحوطها حياطة الناصح الشفيق برعية مولاه، فجاء الأسد -قصده بالأسد ملك الموت- فبطش بالراعي ومزق المرعى، وقد نزل بمولاك ما نزل بأيوب الصابر، وأرجو أن يكون الجبار أراد بعبده غفراناً لخطاياه، وتكفيراً لما حمل من ذنوبه.
إذا ما لقيت الله عني راضياً فإن شفاء النفس مما هنالك فحسبي بقاء الله من كل ميت وحسبي حياة الله من كل هالك لقد ذاق هذا الموت من كان قبلنا ونحن نذوق الموت من بعد ذلك فإن مت فاذكرني بذكر محبب فقد كان جماً في رضاك مسالكي وإلا ففي دبر الصلاة بدعوة يلقى بها المسجون في نار مالك عليك سلام الله حياً وميتاً ومن بعدما تحيا عتيقاً لمالك ودخل عليه يعلى بن منذر المجاشعي قال: يا حجاج كيف حالك؟! قال: غماً شديداً، وجهداً جهيداً، وألماً مضيضاً، ونزعاً جريباً، وسفراً طويلاً، وزاداً قليلاً، فويلي إن لم يرحمني الجبار، قال يعلى: يا حجاج! إنما يرحم الله من عباده الرحماء الكرماء، أشهد أنك قرين فرعون وهامان؛ لسوء سيرتك، وترك ملتك، وتنكبك عن قصد الحق وسنن المحجة وآثار الصالحين، قتلت صالحي الناس فأفنيتهم، وأطعت المخلوق في معصية الخالق، وأرقت الدماء، وضربت الأبشار، وهتكت الأستار، وسست سياسة متكبر جبار، لا الدين أبقيت، ولا الدنيا أدركت، أعززت بني مروان، وأذللت نفسك، وعمرت دورهم، وأخربت دارك، فاليوم لا ينجونك ولا يغيثونك إن لم يكن في هذا اليوم ولا ما بعده، لقد كنت لهذه الأمة هماً وغماً، وعياء وبلاء، فالحمد لله الذي أراحها بموتك، وأعطاها مناها بخزيك، وخرجت روح الحجاج.
يا إخواننا، هذه طريق الصالحين طريق أبي بكر، وهذه طريق المتجبرين؛ طريق الحجاج.
نسأل الله أن يجعل طريقنا طريق الصالحين.
اللهم أحسن لنا خاتمتنا في الأمور كلها.
اللهم توفنا على الإسلام.
اللهم ألحقنا بالصالحين، وارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، وسامحنا وتقبل منا.
اللهم أحينا إن كانت الحياة خيراً لنا، وأمتنا إن كان الموت خيراً لنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وجزاكم الله خيراً، وأشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.