أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه بمشيئة الله عز وجل الحلقة الخامسة والعشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، أو عن الموت وما بعده.
نسأل الله سبحانه وتعالى في بداية هذه الجلسة أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم ثقل بهذه الجلسات موازيننا يوم القيامة.
اللهم اجعل هذه الحلقات حجة لنا لا حجة علينا.
اللهم اجعلها لنا على الصراط نوراً يوم لا يرى الإنسان إلا بنور الإيمان والطاعة.
اللهم ثبت بها على الصراط أقدامنا يوم تزل الأقدام.
ارزقنا يا مولانا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً، لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا مرضاً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً.
اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به الجنة، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وانصر الإسلام وأعز المسلمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم إنك تعلم أننا مقهورون فانصرنا، أذلون فأعزنا، تائهون فأرشدنا، مشتتون فاجمعنا، أصحاب شهوات فتب علينا.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، عافنا واعف عنا، سامحنا وتقبل منا، أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أصلح لنا خواتيمنا وخاتمتنا، اللهم اجعلنا من السعداء المقبولين، ولا تجعلنا من الأشقياء المحرومين، أبعدنا عن النار وما قرب إليها من قول أو عمل، قربنا من الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم اسقنا من يد نبيك شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأظلنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
اللهم شفع فينا نبينا، اللهم شفعه فينا اللهم شفعه فينا اللهم شفعه فينا أدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب، متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب تسليماً كثيراً.
هذه هي الحلقة الرابعة من حلقات الجنة، والحلقة الخامسة والعشرون في سلسلة الحديث منذ أن بدأنا الكلام عن خروج الروح، وكتابة الوصية، ودفن الميت، وحياة البرزخ والنشور والحشر في أرض المحشر، وهيام الناس على وجوههم بغير هدى، وابتعاثهم نقباء ليذهبوا إلى الأنبياء لكي يستشفعوا بهم عند القاهر القهار الجبار القوي ديان يوم الدين أن يبدأ الحساب حتى تئول الشفاعة إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم يشفع النبي عليه الصلاة والسلام لأمته وللأمم كلها، فيأذن الله عز وجل له بالشفاعة، ويبدأ الحساب وتتطاير الصحف، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، ويتضح أمر كل إنسان.
اللهم يا من سترتنا في الدنيا لا تفضحنا عل رءوس الأشهاد يوم القيامة، فإن فضيحة الدنيا أهون عندك وعندنا من فضيحة الآخرة.
ورأينا ترك عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر وهو يخطب الجمعة، فقال: (أيها الناس! على مصافكم -أي: كما أنتم- ثم ذهب فتوضأ وعاد، ثم قال: إن إمامكم أحدث وهو يخطب -أي: انتقض وضوءه- فقال علي: يا أمير المؤمنين! كان أولى أن تكمل خطبتك ثم تذهب للوضوء، ولا داعي لأن تفضح نفسك، قال: يا أبا الحسن! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة).
والإنسان عندما يذنب فيسرق أو يرتكب الفواحش ويظن أن الله يراه فلا يغتر بستر الله عليه.
إن العبد إذا أذنب ذنباً ولم يحدث به أحداً واستغفر من ذنبه فسوف يغفر الله له برحمته، أما إذا أذنب ذنباً ثم حدث جاره أو صديقاً له، ليظهر أنه رجل ذو مغامرت وذو تجارب سابقة، فاعلم أن الله لن يستره يوم القيامة؛ لأنه فضح نفسه، فالإنسان قد يذنب ذنباً ويستره الله عليه، فيا من سترت في الدنيا لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدعو في كل وقت وحين بأن يستر الله عليه، فاللهم استرنا في الدنيا وفي الآخرة يا رب العالمين.
ورأينا كيف أن كل طائفة وكل أمة لها إمام يوم القيامة، فيتقدم إمام الخير بين يدي مولاه عز وجل ليسأله عن صغير الأمر وكبيره ثم يبشره بأنه زحزحه عن النار، وسوف يدخله الجنة، ثم بعد ذلك يعود هذا الإنسان ليبشر من خلفه بمثل ما بشره الله به.
وهناك أيضاً أئمة الشر -والعياذ بالله- وأئمة الشر في كل وقت وحين كثر فالشر له أئمة كما أن للخير أئمة، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لقد جاء هذا الدين غريباً، وسوف يعود كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يستمسكون بسنتي عند فساد أمتي).
أي: لا يعتبرون الدين شيئاً من التاريخ أو مما عفا عليه الزمن أو أنه رأس أموال المفاليس، بل إن الدين هو دستور ونظام الحياة.
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قريناً ورأينا أن العباد وقد انفضوا من أرض المحشر والحساب، وهي أرض بيضاء نقية لم ترتكب عليها معصية قط، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خلق الله للمحشر أرضاً جديدة غير الأرض التي ارتكبت فيها الفواحش) أي: غير الأرض التي عليها بنوك الربا، وصالات القمار، والتي يمشي عليها العرايا، والتي فيها ظلم، وسجون.
والحسن البصري رضي الله عنه إمام التابعين مر بأقوام يبنون حجرات ضيقة، فقال: وسعوها، هذه غرف صغيرة، كيف سيعيش الناس فيها؟ قالوا: يا إمام! هذه سجون -زنازين- قال: وسعوها لعلكم تدخلونها يوماً، من يضمن؟ لا إله إلا الله، فرب وزير ورب مسئول صار في غياهب السجون.
وسبحان الذي يعز الذليل بطاعته، ويذل العزيز بمعصيته، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك يا رب العالمين! فالله كل يوم هو في شأن، له أمور يظهرها ولا يبتديها، يرفع أقواماً ويخفض آخرين.
فالغني يفتقر والفقير يغتني، والصحيح يمرض والمريض يصح، والحي يموت والصغير يكبر، والكبير يهرم، ثم {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68]، هكذا العبد يتدبر الأحوال من حوله فيشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ورأينا أيضاً أن المحشر وهي أرض بيضاء نقية-كما قلنا- قال فيها المليك القدير سبحانه: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:107] أي: ليس فيها حفرة ولا تل مرتفع؛ لأنها أرض ظاهرة مكشوفة مستوية؛ لكي لا يختبئ أحد من أحد، ولا يستطيع أحد أن يختبئ من الله الذي يسمع دبيب النملة السوداء ويراها فوق الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} [الأنعام:59] أي: ورقة من شجرة {إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام:59] كتبه ربنا وفيه أن الورقة الفلانية التي في الشجرة الفلانية، التي في الغابة الفلانية، التي في البلد الفلاني، التي في القارة الفلانية ستسقط يوم كذا، الساعة كذا، الدقيقة كذا الثانية كذا.
أليس هو الحكيم الخبير الخالق؟ فما يدريك بالورقة التي تقع من الشجرة؟ والمطر ينزل بأمره سبحانه وتعالى فيأمره أن ينزل في المكان الفلاني في الساعة الفلانية.
ويعلم أن فلاناً سوف يموت في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية، في الأرض الفلانية.
مشيناها خطىً كتبت علينا ومن كتبت عليه خطىً مشاها ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها وليس للعبد أن يسأل ولا يعترض أبداً، إنما العبد عليه أن يسلم مثل سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فنحن إبراهيميون، أهل الحنيفية السمحاء، سمانا المسلمين من قبل، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] حتى ملكة سبأ لما دخلت صرح سليمان عليه الصلاة والسلام رأت لجة فكشفت عن ساقيها، وكانت تظنه ماء فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير، وفي الأخير اكتشفت أنها كانت منحرفة تعبد الشمس من دون الله، والهدهد هو الذي جاء لسليمان بالخبر اليقين {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22] رآهم يسجدون للشمس من دون الله، وقال الهدهد معتبراً: لماذا لا يسجدون لله الذي يخرج الشيء المختبئ في السموات والأرض.