الوصية بحضور الصالحين عند الاحتضار

وقد أوصيت بما يأتي: (أن يحضرني بعض الصالحين قرب الوفاة؛ ليذكرني بحسن الظن بربي وبرجاء رحمته).

يعني: إذا كنت في صحة فليكن الخوف أكثر من الرجاء، وأما إذا جاءك المرض وأحسست أن هذا مرض الموت فليكن الرجاء أكثر من الخوف.

ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو ينازع الروح فقال له: (بم تشعر؟ قال: أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي، قال: أبشر! فما اجتمعا في قلب عبد إلا وأدخله الله الجنة).

قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] أي: يكون خائفاً من أمر الآخرة وما فيها، وفي نفس الوقت عنده رجاء وأمل في رحمة الله، ولذلك عندما دخل أبو موسى الأشعري على سيدنا عمر بعد أن طعنه أبو لؤلؤة أعطوه كأساً من لبن فنزل من جرحه مشوباً بالدم، فعرفوا أن الطعنة جاءت في جدار المعدة ففتحتها، وهذا دليل أنه اختلط بالدم، فبكى عمر وقال لابنه عبد الله: يا عبد الله ضع رأسي على الأرض، وكان سيدنا عبد الله قد جعل رأس أبيه في حجره، فلما قال له: يا بني ضع رأسي على الأرض، فوضع رأسه على الأرض من أجل أن تصدق فيه نبوءة الحبيب صلى الله عليه وسلم ويموت شهيداً رضي الله عنه، وكان يقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً، ليت أم عمر لم تلد عمر، ثم قال: يا عبد الله بن عمر اذهب إلى عائشة، انظر إلى هؤلاء الذين يبحثون عن الآخرة، وبعد أن نشرح لكم ونوجز لكم أمر الوصية سنقف مع وصيتين: وصية أبي بكر الذي هو أعظم الناس وأفضل الخلق وأكرم الأمة بعد رسول الله، ولو وضع إيمانه في كفة وإيمان الأمة في كفة لرجح إيمان أبي بكر.

وسننظر بم أوصى عند الموت؟ الوصية الثانية: وصية الحجاج بن يوسف الثقفي، سننظر بم أوصى عند الموت؟ وشتان ما بين الوصيتين.

اللهم أكرمنا بحسن الختام يا رب العالمين.

قال عمر: (يا عبد الله بن عمر اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: إن عمر بن الخطاب ولا تقل لها: أمير المؤمنين؛ فما عدت لكم بأمير.

الإمارة انتهت، لا تقل لها: أمير المؤمنين؛ حتى لا تظن عائشة أنه يجب عليها طاعة أمير المؤمنين، وإنما لها الخيار في الأمر الذي ستخبر به.

انظر يا أخي ماذا تقول هذه الشخصيات العظيمة، اللهم ألحقنا بهم يا رب، ولا تحرمنا رؤيتهم والمكث معهم ومجاورتهم في الجنة يا رب العالمين.

وقل لها: إن عمر فيستأذنك أن يدفن بجوار صاحبيه.

وصاحباه هما: سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبو بكر، يستأذن أم المؤمنين عائشة، وعائشة كانت تريد أن تدفن بجوارهما؛ لأن هذا أبوها وهذا زوجها.

فلما جاء عبد الله بن عمر إليها وجدها تبكي، وقالت: والله ما من شجر ولا مدر ولا حجر حتى الدودة في باطن الصخرة إلا وقد حزنت لما حدث لأمير المؤمنين عمر، هذا كلام السيدة عائشة، فقال لها عبد الله بن عمر: إن عمر يستأذنك أن يدفن بجوار صاحبيه أتأذنين؟ قالت: كنت أردته لنفسي، ولأثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل عبد الله من عندها قال له: وافقت يا أمير المؤمنين، قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني، وقبل أن تدفنوني اذهب فاستأذن منها مرة أخرى، فربما استحيت وأنا على قيد الحياة، ولا تستحيي مني بعد موتي.

يقول برنارد شو: كلما قرأت عن شخصية عمر بن الخطاب ظننت أنه أسطورة من أساطير القرون الوسطى.

يعني: أنه شيء غير واقعي.

إذاً: فأنت أيها المؤمن توصي أن يحضرك الصالحون؛ لأن عمر بكى وتوجس خيفة وقال: ويل لـ عمر إن لم يرحم رب عمر عمر، وبكى وأجهش بالبكاء، فبكى من حوله، فقال أبو موسى الأشعري له: يا أمير المؤمنين لقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أول مؤمن يأخذ كتابه بيمينه عمر بن الخطاب).

وسيدنا عمر قد سمع هذا الحديث من الرسول كما سمعه أبو موسى، ولكن الخوف غلب عليه، فلما سمع هذا الحديث من أبي موسى قال له: أعد علي يا أبا موسى، فقال له: (أول مؤمن يأخذ كتابه بيمينه عمر) وقال له: أعد علي، فأعاد عليه ثانية، قال له: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفاضت روحه إلى ربه.

فعند الموت يحضر الصالحون الذين يذكرونك بالآخرة ولا يذكرونك بالدنيا وبلائها.

فكل الخلق سيموتون، وسيدفنون تحت الأرض: العظيم والحقير، الصغير والكبير، الغني والفقير، وليس هناك أحد يدفن فوق الأرض أبداً، بل كلهم تحت الأرض.

يا ابن آدم القبر يناديك كل يوم ويقول: يا ابن آدم رويدك وأنت تسير فوق ظهري، كن شفوقاً علي حتى أكون شفيقاً بك بعد أن تموت، لا تدك الأرض بقوة، {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].

وأول صفة من صفات عباد الرحمن كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] اللهم اجعلنا منهم يا رب، يعني: الذين يمشون بتواضع وتذلل لله، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].

والموت يكون للبدن فهو الذي يتعفن ويتحلل، ولذلك نوسع القماش الذي نكفن فيه الميت؛ لأنه بعد أيام ينتفخ وينتفخ، وبعدما ينتفخ تأتي البكتيريا وتبتدئ الديدان فتأكل اللحم والشحم حتى لا يبقى إلا الهيكل العظمي، وبعد سنوات لو لمست الهيكل العظمي يذوب مثل الرماد.

وأما الموت للروح فهو ترق، فالروح تنطلق في الملكوت عند رب الملكوت سبحانه، أي: روح المؤمن، فروح المؤمن في عليين، اللهم اجعلنا منهم يا رب، وهذا في كتاب مرقوم يشهده المقربون.

وأما الروح الثانية والعياذ بالله فهي في سجين: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:8] وهي روح الكافر.

إذاً: تعود كل نفس وروح من العالم الذي جاءت منه، فالبدن جاء من التربة فيعود إلى التربة، والروح تنطلق في هذا الكون، تنطلق إلى مكان لا يعلم به إلا الله عز وجل، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].

فأنا عندما يحضرني الصالحون فإن سيذكرونني بالله وبرحمته، وسيكلمونني بالكلام الطيب، وسيلقنوني كلمة التوحيد، لكن لا تثقل على الذي ينازع الروح عند تلقينه كلمة التوحيد؛ لأن الذي يموت لا تعرف حالته ولا وضعه، فأنت تنظر إليه وهو أمامك، ولكن هو يرى ما لا ترى ويسمع ما لا تسمع، فهو مثل الطائرة عندما تقلع تبدأ تجري على الممر ثم بعد ذلك الطيار يقوم بفصل الأنوار ويوقف التكييف من أجل أن تستعد الطائرة للإقلاع، ويقول لك: اربط الحزام، وامتنع عن التدخين، فهذه اللحظة الحاسمة في انطلاق الطائرة، ومغادرتها للأرض، وأصعب اللحظات عند الطائرة حين تمر في ممر المطار، فالطائرة تستجمع كل القوى من أجل أن تغادر الأرض، فهكذا مغادرة الروح قريبة من هذا الأمر، فالميت الذي ينازع الروح يكون في حالة أنت لا تعرفها.

وهذا إمام أهل السنة سيدنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه لما جاءه الموت وابنه بجواره كان يقول له: يا أبت قل كلمة التوحيد، قل: لا إله إلا الله، فكان يشير بيده أن لا، فخاف وارتعد، وبعدما أفاق من غشوته قال له: يا بني لا تثقل على الذي يموت، قال له: لماذا يا أبت؟ قال له: لقد شعرت بعطش شديد ورأيت كأنما إبليس جاء لي بكوب من الماء، يقول لي: أسقيك من هذا وتقول كلمة الكفر، فكنت أقول: والله لا أقولها أبداً.

أما الإنسان المقيم على المعاصي فربنا يفتنه ساعة الموت والعياذ بالله، فيأتي الشيطان إليه في صورة أبيه أو أحد أقربائه الذين ماتوا قبله فيقول له: هل تعرفني؟ يقول له: نعم، فيقول له: أنا مت قبلك، فإن أردت أن تدخل الجنة فمت على دين النصارى أو مت على دين اليهود، فيتبعه والعياذ بالله، فهذا الذي يفتن عند الموت، اللهم لا تفتنا لا في الحياة ولا عند الموت، ولا في القبر ولا بعد القبر يا رب العالمين.

فأنت يا مسلم أكثر من الطاعات من أجل أن يأتيك ملك الموت وأنت ثابت، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

وأحاديث الدار الآخرة ليست من العقل، وإنما هي من الكتاب والسنة، ولا نستطيع أن نأتي بشيء من عندنا؛ لأن هذا شيء يخرج عن القياس، وإنما نقول: قال الله قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لا تثقل علي المحتضر حين تلقنه لا إله إلا الله، لكن لو أن مجموعة من الصالحين كانوا عند المحتضر فقالوا لأحدهم: يا فلان ألا تقوم لترقي فلاناً، فيقول: يا جماعة أريد منكم قبل أن أرقيه أن توحدوا الله، فقال كل القاعدين حول الميت: لا إله إلا الله، فالمحتضر من ضمنهم سيقول: لا إله إلا الله، وينطق بشهادة التوحيد، فهذا من أجل أن تخرج هذه الكلمة من فمه فيلقى الله عليها، فيبعث في الموحدين يوم القيامة.

والميت يحس لكنه لا يتكلم، أليس سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم لما دفن قتلى المشركين في قليب بدر قال: (يا أهل مكة إني وجدت ما وعدني حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ قال الصحابة: عجباً يا رسول الله أتخاطب جيفاً؟ فقال: والذ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015