نحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثانية عشرة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة الثانية في موضوع الحساب، اللهم ثبتنا عند الحساب يا رب العالمين، وهذه الحلقة تتصل بأهمية الحلقة السابقة، وقلت في مقدمة الحلقة الحادية عشرة: إن حلقة الحساب من أخطر حلقات الدار الآخرة أو من الحلقات الهامة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، وأكرر ما أقوله في كل سلسلة الدروس: إن حلقات الدار الآخرة ليست قصصاً تقص، وليست تسلية وتضييعاً للوقت، ولكنها عبارة عن تفتيح لقلوبنا عسى أن يتوب العاصي، وأن يهتدي الضال، وأن يرتدع كل من يأكل حراماً، وأن يعيد الظالمون إلى أصحاب المظالم مظالمهم؛ لأنه في ذلك اليوم لا يستطيع الإنسان أن يرد مظالم الناس إلا بالحسنات والسيئات، فهناك لا يوجد أحد نعطيه رشوة حتى يمشي الأمور، ولا صاحب ضرائب يمشي الموضوع وإنما هناك رب قهار جبار يقول يوم القيامة: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17]، {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26] ويوم الدين: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:17 - 19].
فالأمر يوم القيامة لله عز وجل ليس لأحد، وما دام الأمر لله فإنه لابد أن يعيد الإنسان حساباته قبل أن يلقى رب العباد سبحانه وتعالى، إن المسلم السعيد هو الذي أعد قبره قبل أن يدخله أو قبل أن يسكنه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه، ثم ترك دنياه قبل أن تتركه.
لكن الكارثة فينا جميعاً أننا لا نترك الدنيا، ولكن هي التي تتركنا، لا يوجد أحد فينا يترك الدنيا حتى الذي يمسك في منصب من المناصب لا يريد أن يتخلى من منصبه، وإذا أحيل إلى التقاعد يأتيه اكتئاب، وبعد ما كان الناس يعظمونه ويحترمونه ويجلونه إذا بهم يتركونه ويهملونه ولا يوقرونه ولا يعظمونه، فيحصل له اكتئاب وحالة نفسية غريبة.
والمسلم من الواجب عليه أن يضع في ذهنه أن الدنيا كلها عارية مسترجعة، أمانة سوف تعود إلى خالقها سبحانه وتعالى، وما على المسلم إلا أن يعيد الحسابات في أن يترك الدنيا قبل أن تتركه، وليس معنى ذلك أنك تترك الدنيا، وتترك العمل، وتعتزل الناس، ولكن عش بين الناس بجسدك، وقلبك مع ربك سبحانه وتعالى تعيش مع الدنيا في الأعمال والأرزاق، وفي السعي والكد، وفي تحصيل العلم، ولكن قلبك متصل بالله عز وجل، تدعوه ليل نهار عسى أن تكون من التائبين، وعسى أن يكون قد غفر الله لك أو نظر إليك نظرة رضا تكون فيها سعادة الدهر كلها، اللهم اجعلنا من السعداء المقبولين يا رب العالمين!