مِثَال هَذِه التَّوسعَة فِي أصُول الْمُعَامَلَات أَن الْقَاعِدَة عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين أَن الأَصْل فِي الْعُقُود الْبطلَان فَلَا يَصح مِنْهَا إِلَّا مَا دلّ الشَّرْع على صِحَّته، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الأَصْل فِيهَا الصِّحَّة إِلَّا مَا دلّ الْكتاب أَو السّنة على بُطْلَانه، لقَوْله تَعَالَى فِي أول سُورَة الْمَائِدَة وَهِي آخر مَا نزل من السُّور {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} والعقود مَا يتعاقد النَّاس عَلَيْهِ، فَهَذَا الْمَذْهَب أقوى دَلِيلا، وأقوم قيلا، وَأهْدى سَبِيلا، بِمَا فِيهِ من التَّوسعَة على النَّاس وَهُوَ الَّذِي رَجحه الْمُحَقِّقُونَ من الْحَنَابِلَة. .
ألم تَرَ أَنه لما شَاءَت الحكومتان العثمانية والمصرية أَن تخرجا عَن مَذْهَب الْحَنَفِيَّة فِي بعض أَحْكَام النِّكَاح وَالطَّلَاق وَفسخ النِّكَاح فِي بعض الْأَحْوَال، وتأخذا فِيهَا بِمَا تقرر فِي الْمذَاهب الْأُخْرَى لباهما شُيُوخ الْفِقْه وَوَضَعُوا لَهما قوانين فِي هَذِه الْأَبْوَاب مقتبساً بَعْضهَا من الْمذَاهب الثَّلَاثَة الْأُخْرَى وَلَعَلَّهُمَا لَو شاءتا الْأَخْذ فِي بعض الْأَحْكَام بأقوال غير عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأئمة العترة لما أَبَوا مواتاتهما، فَإِن الجمود على مَذْهَب معِين لم يكن إِلَّا تَحْقِيقا لرغبة الْأُمَرَاء والسلاطين، والاسترزاق من الْأَوْقَاف الَّتِي زمامها بِأَيْدِيهِم، فالذنب فِيهِ مُشْتَرك بَينهم وَبَين الْفُقَهَاء الَّذين رَأَوْا فِيهِ مَنْفَعَة لَهُم. . وَأما الَّذِي لَا يَجْرُؤ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ المتفقهة فَهُوَ الاستنباط من الْكتاب وَالسّنة، وقواعدهما الْعَامَّة ككون الضرورات تبيح الْمَحْظُورَات، وَكَون مَا حرم لسد الذريعة يُبَاح للْمصْلحَة الراجحة. . وَإِن نَص أئمتهم على هَذِه الْقَوَاعِد لِأَن هَذَا عِنْدهم من الِاجْتِهَاد الْمَمْنُوع. .
وَالْحق أَن الْعلم الاستقلالي (الِاجْتِهَاد) لم يَنْقَطِع وَلنْ يَنْقَطِع من هَذِه الْأمة المحمدية، وَإِلَّا لبطلت حجَّة الله على الْخلق بفقد حملتها والدعاة إِلَيْهَا والذابين عَنْهَا، وَلما صَحَّ من خبر الْمَعْصُوم من عدم اجتماعها على ضَلَالَة، وَمن أَنه لَا يزَال فِيهَا طَائِفَة ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يَأْتِي أَمر الله، وَلَكِن هَؤُلَاءِ الْعلمَاء المستقلين كَانُوا ينتسبون فِي كل عصر من أعصار غَلَبَة الْجَهْل إِلَى الْمذَاهب الَّتِي نشئوا عَلَيْهَا قبل الِاجْتِهَاد لسببين: (أَحدهمَا) أَنهم لم يَكُونُوا يَجدونَ رزقا يتمكنون بِهِ من الِانْقِطَاع للْعلم إِلَّا من الْأَوْقَاف المحبوسة على المشتغلين بِهَذِهِ الْمذَاهب فيضطرون إِلَى تدريس كتبهَا والتصنيف فِيهَا ليحل لَهُم الْأكل مِمَّا وقف على أَهلهَا (وَثَانِيهمَا) أَن الْمُلُوك والحكام وأعوانهم من المقلدين كَانُوا وَمَا زَالُوا حَربًا للْعلم الاجتهادي الَّذِي يفتضحون بِهِ،