لم يَجدوا من يقرضهم إِلَّا من غَيرهم، إِمَّا من أهل ذمتهم وَإِمَّا من الْأَجَانِب عَنْهُم، كالمعاهدين الَّذين يكونُونَ فِي بعض الأحيان حربيين، وَهَذِه مفْسدَة أُخْرَى هِيَ ذهَاب ثروة الْمُسلمين إِلَى غَيرهم، وناهيك بذهابها إِلَى أعدائهم، وحاجتهم إِلَيْهِم فِي أهم مصالحهم.
ثمَّ إِن توسع الْفُقَهَاء فِي مسَائِل الرِّبَا وإدخالهم فِيهَا مَا لم يكن مَعْرُوفا فِي عصر الْوَحْي، وتضييق أَكْثَرهم فِي أَحْكَام الْعُقُود الْمَالِيَّة، واستحداث الْأُمَم الَّتِي يتعاملون مَعهَا لأنواع كَثِيرَة من الْعُقُود والمعاملات، وترقي الْعُلُوم الاقتصادية والأعمال الْمَالِيَّة إِلَى دَرَجَة قَضَت بتفوق متبعي قواعدها ونظمها على غَيرهم فِي الثروة وَالْقُوَّة والسيادة - كل أُولَئِكَ كَانَ دافعا فِي صُدُور الْمُسلمين ورافعاً لغَيرهم عَلَيْهِم حَتَّى فِي دِيَارهمْ، بل هُوَ أظهر الْعِلَل لسلب جلّ ملكهم مِنْهُم، والسيطرة عَلَيْهِم فِيمَا بقى لَهُم شَيْء من السِّيَادَة فِيهِ، ولاعتقاد أَكثر الَّذين يعْرفُونَ أَحْوَال هَذِه الْأُمَم العزيزة فِي علومها وأعمالها ويجهلون أصُول الْإِسْلَام، أَن الْإِسْلَام نَفسه عِلّة ضعف الْمُسلمين بِمَا فِي شَرعه من الجمود على أَحْكَام عتيقة مَالِيَّة واجتماعية توجب فقر ملتزمها وكل مَا يجره الْفقر فِي الْأُمَم من الذل والضعف وفقد الْملك.
بدأت بِضَرْب الْمَسْأَلَة الْمَالِيَّة مثلا لما طَرَأَ على كثير من الْبِلَاد الإسلامية من تَأْثِير ترك الْعَمَل بِأَحْكَام الشَّرِيعَة الغراء، إِذْ كَانَ المَال قوام حَيَاة الْأُمَم والدول فِي كل زمَان، وَصَارَ لَهُ من الشَّأْن فِي هَذَا الزَّمَان مَا لم يكن لَهُ من قبل وَلَا سِيمَا عصر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الَّذِي كَانَت فِيهِ الْأمة قَليلَة الْحَاجَات، وَغير مرتبطة فِي حَيَاتهَا بمعاملات الْأُمَم الْأُخْرَى، وَلَكِن عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز الْحَكِيم قد أنزل فِي ذَلِك الْعَصْر قَوْله {وَلَا تُؤتوا السُّفَهَاء أموالَكم الَّتِي جعلَ الله لكم قيَاما} فأرشدنا بِهِ إِلَى مكانة المَال من حَيَاة الْأُمَم ونظام أمرهاوكونها لَا تقوم إِلَّا بِهِ، وحثنا على الْمُحَافظَة عَلَيْهِ، وَعدم تَمْكِين السُّفَهَاء من التَّصَرُّف فِيمَا هُوَ ملك لَهُم مِنْهُ، كَمَا أمرنَا فِي آيَات أُخْرَى بالاقتصاد ونهانا عَن الْإِسْرَاف والتبذير، وذمه كَمَا ذمّ الْقمَار غول الثروة بِمَا أَفَادَ تحريمهما تَحْرِيم الْقمَار بأنواعه فِي الدّين، فَهَل يُمكن أَن يُقَال إِن مُقْتَضى شرع هَذَا الدّين أَن يكون أَهله فُقَرَاء؟ وَأَن يكون مَا بِهِ قيام معاشهم وَعزة أمتهم ودولتهم فِي أَيدي الطامعين فيهم من الْأُمَم الْأُخْرَى؟ وَإِذا كَانَ هَذَا مُخَالفا لهدى هَذَا الدّين فَمَا بَال المشتغلين بِعلم الشَّرْع فِيهِ أَجْهَل أهل بِلَادهمْ بالفنون الْمَالِيَّة،