(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ نَفْسِهِ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا حَتَّى مَاتَ يُعَدُّ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ فَلِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِثْمُ وَالسَّاكِتُ عَنْ دَفْعِ الصَّائِلِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُعَدُّ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ فَلِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْإِثْمُ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الدَّافِعَ لِصَائِلٍ إنْسَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عَنْ مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ مَالٍ لَا يَقْصِدُ قَتْلَهُ بَلْ الدَّفْعَ خَاصَّةً، وَإِنْ أَدَّى إلَى الْقَتْلِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيَقْصِدُ قَتْلَهُ ابْتِدَاءً لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا إلَى الدَّفْعِ فَمَنْ خَشِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ فَهُوَ هَدَرٌ عِنْدَنَا لَا يَضْمَنُ حَتَّى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَكَذَلِكَ الْبَهِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْ صَاحِبِهَا فِي دَفْعِهَا، نَعَمْ لَوْ قَدَرَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُ تَعَيَّنَ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الدَّفْعُ بِالْجُرْحِ وَلِذَا لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ بِالْجُرْحِ ابْتِدَاءً لِمَنْ يَخْشَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُبْ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْإِتْلَافِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَهُ الدَّفْعُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: أَعْظَمُ الْمَدْفُوعِ النَّفْسُ، وَأَمْرُهُ بِيَدِهِ إنْ شَاءَ أَسْلَمَ نَفْسَهُ أَوْ دَفَعَ عَنْهَا وَيَخْتَلِفُ الْحَالُ فَفِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ الصَّبْرُ أَوْلَى تَقْلِيلًا لَهَا وَهُوَ يُقْصَدُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ عَامَّةٍ فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ عَضَّ الصَّائِلُ يَدَك فَنَزَعْتَهَا مِنْ فِيهِ فَقَلَعْتَ أَسْنَانَهُ ضَمِنْتَ دِيَةَ الْأَسْنَانِ لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِك وَقِيلَ لَا تَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَلْجَأَك لِذَلِكَ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى حَرَمٍ مِنْ كَوَّةٍ لَمْ يَجُزْ لَك أَنْ تَقْصِدَ عَيْنَهُ أَوْ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا تُدْفَعُ الْمَعْصِيَةُ بِالْمَعْصِيَةِ وَفِيهِ الْقَوَدُ إنْ فَعَلْت وَيَجِبُ تَقَدُّمُ الْإِنْذَارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فِيهِ دَفْعٌ.
وَمُسْتَنَدُ تَرْكِ الدَّفْعِ عَنْ النَّفْسِ وَجْهَانِ: (الْأَوَّلُ) مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ».
(وَالثَّانِي) قِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة:27] ثُمَّ قَالَ {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة:29] وَلَمْ يَدْفَعْهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْفَحْلَ الصَّائِلَ وَالْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُبَاحُ لَهُ الدَّفْعُ وَيَضْمَنُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ آدَمِيًّا بَالِغًا عَاقِلًا.