مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} [النازعات] وسواء كان ذلك الغرض مشحة بمال، أو تمسكاً بوطن، أو حباً لمسكن، أو طلباً لجاه، أو غير ذلك مما يدخل في (استحباب الدنيا) على الآخرة، فلو كانت هذه حجة معتداً بها مانعة من تكفير من ارتكب كل هذه الموبقات من كثرة التطلع على عورات المسلمين والتنبيه عليهم والتعريف لعدوهم بأخبارهم -بمجرد أنه فعلها لغرض دنيوي- لما أمكن تكفير أحدٍ إلا أن يشاء الله: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة/24]
إلا أن يقال إن مقصد الإمام ابن العربي: أن دلالة الكفار على عورات المسلمين لا يكون كفراً من أصله حيث كان الدافع لفاعله دنيوياً، وليس المقصود أن مَن ارتكب الكفر لأمر دنيوي لا يكفر، فهو ربط الحكم بنفس الفعل وصفته لا بحال الفاعل، والفرق بين الصورتين بَينٌ -مع بُعده والتكلف فيه- ففي الحالة الأولى: يكون نفس الفعل (الدلالة على العورات) ليس مكفِّراً حينما يكون المحرك له هو طلب الدنيا، فليس المانع من تكفير فاعله هو طلبه للدنيا وحرصه عليها، بل لأن الفعل بهذه الصفة المركبة ليس مما يدخل في المكفرات أصلاً.
وأما في الحالة الثانية: فيكون الحكم على نفس التطلع على العورات والتنبيه عليها وتكرير ذلك من المكفرات المخرجة من الملة وإنما يمنع من تكفير صاحبها كونه ارتكبها لأجل الدنيا، وكلا الصورتين خطأ مع أن الحالة الثانية أشنع من الأولى بلا شك ومعناها هو الأقرب في سياق كلام الإمام ابن العربي رحمه الله، والذي نقله بنصه تقريباً الإمام القرطبي المالكي رحمه الله، ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة ولكل عالم هفوة. (?)
وننقل أولاً بعض أقوال العلماء في هذه المسألة ثم ننظر فيما يترجح بعون الله وتوفيقه.