العصرية، فليكن هذا الأمر مستصحَباً مستحضَراً، ولا ينبغي أن يغفل عنه في هذه المسألة فتزل قدم بعد ثبوتها والله تعالى أعلم.
ثالثا- الأمر المقطوع به قطعاً باتاً أن حاطباً رضي الله عنه لم يكفُر بإخباره كفار قريش بما أخبر:
بمعنى أنه لم يصر مرتداً خارجاً عن ملة الإسلام، والذي منع من تكفيره أحد احتمالين لا ثالث لهما:
الأول: أن لا تكون مراسلة حاطب رضي الله عنه لكفار قريش أمراً مكفراً أصلاً، وإنما هي معصية كغيرها من المعاصي التي هي دون الكفر.
الثاني: أن يكون نفس الفعل الذي ارتكبه حاطب رضي الله عنه مكفِّراً، ولكن منع من تكفيره تعييناً مانعٌ ما كالتأويل.
وبكلٍ من الاحتمالين قال بعض العلماء، إلا أن الأكثرين - فيما اطلعت- على أن ما فعله حاطب رضي الله تعالى عنه لا يرتقي إلى درجة الكفر، وإنما هو كبيرة من الكبائر، فالكلام هنا على خصوص فعله لا على أصل التجسس والذي نقلنا عن عدد من العلماء من قبل: أن إطلاع الكفار على عوارت المسلمين ودلالتهم عليها لينتفعوا بها في حربهم لهم هو نوٌع من أنواع المظاهرة التي تُخرج مقترفها من الملة، وأن صاحبها ليس من الله في شيء وقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر.
ومع ذلك فإنني أنبه هنا إلى أن الحكم على خصوص ما فعله حاطب رضي الله تعالى عنه وهل يعد كفراً أم لا هو من المسائل الاجتهادية المحضة التي لا تعلق لها بشأن العقيدة، وإنما مبناه على الترجيح وقوة الدليل بشرط أن يكون ذلك سائراً على نسق أهل السنة والجماعة الذين لا يشترطون الاستحلال أو الجحود في الأقوال والأفعال المكفرة، ويفرقون بين التكفير المطلق وتكفير المعين بناء على توفر الشروط وانتفاء الموانع لا على معرفة ما في قلب قائلها أو فاعلها.
كما أنهم لا يجعلون ارتكاب المكفرات القولية أو الفعلية لأجل أمرٍ من أمور الدنيا مانعاً من تنزيل الحكم على مرتكبها، ولو جوِّز هذا الأمر لما أمكن تكفير أحدٍ إلا أن يشاء