ثم قال:" وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي كِتَابِنَا أَنَّهُ مَا لَمْ يَجُزِ اجْتِمَاعُ حُكْمَيْهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَا قَامَتِ الْحُجَّةُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخُ الْآخَرِ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ الْخِيَارَ فِي الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالْقَتْلِ إِلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -،وَإِلَى الْقَائِمِينَ بَعْدَهُ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَتْلُ مَذْكُورًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ بِقَتْلِهِمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] الْآيَةَ بَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ فِيمَنْ صَارَ أَسِيرًا فِي يَدِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَيَقْتُلُ بَعْضًا، وَيُفَادِي بِبَعْضٍ، وَيَمُنُّ عَلَى بَعْضٍ، مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَقَدْ أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَدْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، وَصَارُوا فِي يَدِهِ سِلْمًا، وَهُوَ عَلَى فِدَائِهِمْ وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ قَادِرٌ، وَفَادَى بِجَمَاعَةِ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُسِرُوا بِبَدْرٍ، وَمَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنَفِيِّ، وَهُوَ أَسِيرٌ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ ثَابِتًا مِنْ سَيْرِهِ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ لَدُنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِحَرْبِهِمْ، إِلَى أَنْ قَبَضَهُ إِلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - دَائِمًا ذَلِكَ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَنَّ وَالْفِدَاءَ فِي الْأُسَارَى، فَخَصَّ ذِكْرَهُمَا فِيهَا، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِقْتَلِهِمَا وَالْإِذَنَ مِنْهُ بِذَلِكَ قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ فِي سَائِرِ آيِ تَنْزِيلِهِ مُكَرَّرًا، فَأَعْلَمَ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ مَا لَهُ فِيهِمْ مَعَ الْقَتْلِ " (?)

وقال ابن العربي:" قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ: الْمَعْنَى فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ. وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ، فَأَبَى وَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ، وَقَرَأَ: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4].

قُلْنَا: قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفَعَلَهُ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَا حُكْمَ، الْجَلْدِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حُكْمَ الرَّجْمِ؛ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ، وَرَبُّك أَعْلَمُ." (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015