وإنّ اللحم ليكون بيني وبينه الذراعان والثلاث الأذرع، فما أجد ريحه إلّا بعد أن أدنيه من أنفي. وكلّ ذلك عجب.
ولم أجد أهل سكّة أصطفانوس «1» ، ودار جارية، وباعة مربّعة بني منقر «2» يشكّون أنّ كلبا كان يكون في أعلى السكة، وكان لا يجوز محرس الحارس أيام الأسبوع كلّه، حتّى إذا كان يوم الجمعة أقبل قبل صلاة الغداة، من موضعه ذلك إلى باب جارية، فلا يزال هناك مادام على معلاق الجزّار شيء من لحم. وباب جارية تنحر عنده الجزر في جميع أيّام الجمع خاصّة، فكان ذلك لهذا الكلب عادة، ولم يره أحد منهم في ذلك الموضع في سائر الأيّام، حتّى إذا كان غداة الجمعة أقبل! فليس يكون مثل هذا إلّا عن مقداريّة بمقدار ما بين الوقتين.
ولعلّ كثيرا من الناس ينتابون بعض هذه المواضع في يوم الجمعة، إمّا لصلاة، وإمّا لغير ذلك، فلا يعدمهم «3» النّسيان من أنفسهم، والاستذكار بغيرهم. وهذا الكلب لم ينس من نفسه، ولا يستذكر بغيره.
وزعم هؤلاء بأجمعهم أنّهم تفقّدوا شأن هذا الكلب منذ انتبهوا لصنيعه هذا، فلم يجدوه غادر ذلك يوما واحدا. فهذا هذا.
وأنشد أبو الحسن بن خالويه عن أبي عبيدة لبعض الشعراء: [من الطويل]
يعرّد عنه جاره وشقيقه ... وينبش عنه كلبه وهو ضاربه
قال أبو عبيدة: قيل ذلك لأنّ رجلا خرج إلى الجبّان ينتظر ركابه فأتبعه كلب كان له، فضرب الكلب وطرده، وكره أن يتبعه، ورماه بحجر، فأبى الكلب إلّا أن يذهب معه، فلما صار إلى الموضع الذي يريد فيه الانتظار، ربض الكلب قريبا منه، فبينا هو كذلك إذ أتاه أعداء له يطلبونه بطائلة لهم عنده، وكان معه جار له وأخوه دنيا، فأسلماه وهربا عنه، فجرح جراحات ورمي به في بئر غير بعيدة القعر، ثم حثوا عليه من التراب حتّى غطّى رأسه ثم كمّم فوق رأسه منه، والكلب في ذلك