يقوته وهو أعمى لا يبصر، وأصمّ لا يسمع، وبليد لا يتصرّف، وأبله لا يعرف!. ومع ذلك أنّه لا يجوز باب جحره، ولا يتكلّف سوى ما يجلب إليه رازقه ورازق غيره.
وأيّ شيء أعجب من طائر ليس له رزق إلّا أن يخلّل أسنان التّمساح، ويكون ذلك له.
وأيّ شيء أعجب من طائرين، يراهما الناس من أدنى جدود البحر «1» من شقّ البصرة، إلى غاية البحر من شقّ السّند، أحدهما كبير الجثّة يرتفع في الهواء صعدا، والآخر صغير الجثّة يتقلّب عليه ويعبث به، فلا يزال مرّة يرفرف حوله ويرتقي على رأسه، ومرّة يطير عند ذناباه، ويدخل تحت جناحه ويخرج من بين رجليه، فلا يزال يغمّه ويكربه حتّى يتّقيه بذرقه، فإذا ذرق شحا له فاه فلا يخطئ أقصى حلقه حتّى كأنّه دحا به في بئر، وحتّى كأنّ ذرقه مدحاة بيد أسوار «2» ، فلا الطائر الصغير يخطئ في التلقّي، وفي معرفته أنّه لا رزق له إلّا الذي في ذلك المكان؛ ولا الكبير يخطئ التّسديد «3» ، ويعلم أنّه لا ينجيه منه إلا أن يتّقيه بذرقه، فإذا أوعى ذلك الذّرق «4» ، واستوفى ذلك الرّزق، رجع شبعان ريّان بقوت يومه، ومضى الطائر الكبير لطيّته.
وأمرهما مشهور وشأنهما ظاهر، لا يمكن دفعه ولا تهمة المخبرين عنه.
فجعل تعالى وعزّ بعض الوحوش كسوبا محتالا، وبعض الوحوش متوكّلا غير محتال، وبعض الحشرات يدّخر لنفسه رزق سنته؛ وبعضا يتّكل على الثّقة بأنّ له كلّ يوم قدر كفايته، رزقا معدّا وأمرا مقطوعا. وجعل بعض الهمج يدّخر، وبعضه يتكسّب، وبعض الذكورة يعول ولده، وبعض الذكورة لا يعرف ولده، وبعض الإناث تخرّج «5» ولدها، وبعض الإناث تضيّع ولدها وتكفل ولد غيرها، وبعض الأجناس معطوفة على كل ولد من جنسها، وبعض الإناث لا تعرف ولدها بعد استغنائه عنها،