وهذا شبيه بما يروى ويخبر عن الذَّرّ، فإن الذَّرّ متى رأت بحيّة خدشا لم تقلع عنه حتى تقتله، وحتى تأكله.
ولقد أردت أن أغرس في داري أراكة، فقالوا لي: إن الأراكة إنما تنبت من حبّ الأراك، وفي نباتها عسر، وذلك أن حبّ الأراك يغرس في جوف طين، وفي قواصر [1] ، ويسقى الماء أياما. فإذا نبت الحبّ وظهر نباته فوق الطين، وضعت القوصرة [1] كما هي في جوف الأرض، ولكنها إلى أن تصير في جوف الأرض، فإن الذرّ يطالبها مطالبة شديدة. وإن لم تحفظ منها بالليل والنهار أفسدتها.
فعمدت إلى منارات من صفر [2] من هذه المسارج [3] ، وهي في غاية الملاسة واللّين، فكنت أضع القوصرة على التّرس الذي فوق العمود الأملس، فأجد فيها الذرّ الكثير، فكنت أنقل المنارة من مكان إلى مكان، فما أفلح ذلك الحبّ.
قال: والعناكب ضروب: فمنها هذا الذي يقال له الليث، وهو الذي يصيد الذبّان صيد الفهد، وقد ذكرنا في صدر هذا الكلام [4] حذقه ورفقه، وتأتّيه وحيلته.
ومنها أجناس طوال الأرجل، والواحدة منها إذا مشت على جلد الإنسان تبثّر [5] . ويقال إن العنكبوت الطويلة الأرجل، إنما اتخذت بيتا وأعدّت فيه المصايد والحبائل، والخيوط التي تلتفّ على ما يدخل بيتها من أصناف الذّبان وصغار الزنابير- لأنها حين علمت أنها لا بدّ لها من قوت، وعرفت ضعف قوائمها، وأنها تعجز عما يقوى عليه الليث، احتالت بتلك الحيل.
فالعنكبوت، والفأر، والنحل، والذّرّ، والنمل، من الأجناس التي تتقدم في إحكام شأن المعيشة.