مفهوم الحسبة في الإسلام
إن نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة الإسلامية يعد وظيفة أساسية للرسول صلى الله عليه وسلم ولجميع أفراد أمته من بعده، ذلك لما له من أهمية قصوى في الحفاظ على الكيان الاجتماعي للمسلمين، فهو الوسيلة الأولى لتحقيق خلافة الإنسان على الأرض وإصلاحها للبشرية جمعاء، لذا فقد وضع له الإسلام أسسا تضمن فعاليته في المجتمع ويمكن إجمال تلك الأسس فيما يلي:
1 - إن الله تعالى جعل ذلك واجبا دينيا على كل فرد من أفراد المجتمع بحسب موقعه وقدرته. قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»
2 - إضافة إلى كونه واجبا على الأفراد، فقد جعله الله تعالى واجبا دينيا ومهمة أساسية للدولة المسلمة، تتوقف صلاحيتها للاستمرار في قيادة الأمة على القيام بهذا الواجب، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]
3 - لكي تتحد مسؤولية الدولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد وضع له نظاما محددا وولاية خاصة هي ولاية الحسبة، يقوم عليها أشخاص يختارون لها اختيارا دقيقا وفق شروط واضحة، حتى يتم الإشراف عليهم من قبل الدولة.
4 - حتى تزداد فعالية هذا الواجب -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -فقد ربط الشرع بين مهمته ورعاية مصالح الناس، حيث جعل الغاية منه تحقيق ما يصلح للناس معاشهم ومعادهم بالحفاظ على المنافع وتنميتها ومحاربة المضار وإخمادها. لذا قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]
5 - ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأفراد، وحتى يمتثل الأفراد لهذا الواجب، فقد ربطه الله تعالى بالوعد والوعيد، فوعد من قام به بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، كما أوعد من تخلف عن القيام به بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في صفات المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] وقال الله تعالى في صفات المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليضربن الله على قلوبكم ثم تدعوه فلا يستجيب لكم»
6 - إن الله تعالى جعل اهتمام المرء بنفسه وتزكيتها قبل أن يلتفت إلى الآخرين محورا للإصلاح، حتى لا يكون الطعن في سلوكه سبيلا وحجة للآخرين يتعذر بها عن عدم الانصياع للأمر أو النهي، لذا قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]
7 - وحتى لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدعاة للارتكان إلى الغير والاعتذار بذلك فقد وزع الشرع المسؤوليات على كل فئات المجتمع مراعيا في ذلك التدرج ليشمل الأفراد والأسرة والوالي الأعلى للدولة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الأمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته» وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]
8 - لأن الأسرة هي الخلية الأولى لبناء المجتمع الصالح، فقد اهتم بها الإسلام اهتماما كبيرا، لذا كان أول من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغه الدعوة هم أقرب الناس إليه، قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]
9 - وحتى لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظيا دون أن تكون للقائم به سلطة أو نفوذ فقد خول الإسلام للمحتسب بعض صلاحيات التنفيذ فيما يدخل في مكانته وقدرته، إلا أنه ميزه عن القاضي بأنه لا ينتظر أن يرفع إليه الأمر ليفصل فيه بل يقتحم الموضع الذي يظهر فيه المنكر أو يهجر فيه المعروف فيقوم بواجب الأمر والنهي تغييرا أو تعميرا. قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] فبين الله تعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل معه الحديد الذي هو القوة ليحمي الكتاب ودعاته ويعين على تطبيق أحكامه.
10 - وأخيرا فإن الشارع الحكيم وضع ضمانات وضوابط عديدة لمن يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تصونه عن الانحراف وتحد من الآثار السالبة التي يمكن أن تقع من المحتسب، وأهم هذه الضوابط ما يلي:
أ-تقديم الأهم على المهم. وهذا يعنى أن المحتسب عليه أن يدرك الأمور التي يريد الاحتساب فيها ثم يرتبها بحسب أهميتها فيبدأ بأولاها بالاهتمام ثم الذي يليه، لذا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب»
ب- اتباع الوسائل المشروعة لمعرفة المنكر المرتكب أو المعروف المتروك. فالمحتسب ملزم بقواعد الشرع في ذلك، فلا يجوز له أن يتجسس بحجة الوصول إلى المنكر، كما لا يجوز له الغش والخداع في سبيل ذلك، وإنما واجبه وعمله متعلق بالمنكرات الظاهرة فقط دون المستورة، قال الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] وقال صلى الله عليه وسلم: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم»
ج- إن ميزان الحكم على الشيء بأنه معروف أو منكر إنما هو بالشرع، فما ثبت الشرع بأنه معروف أمر به المحتسب، وما ثبت شرعا بأنه منكر نهى عنه، أما ما سوى ذلك فلا يتدخل فيه.
د- قيام شروط الإنكار في الفعل وهي:
1 -أن يثبت أن الفعل منكر شرعا.
2 -أن يكون المنكر موجودا في الحال.
3 - أن يكون ظاهرا بغير تجسس.
4 -أن يكون المنكر معلوما بغير اجتهاد.
هـ- التدرج في الإنكار: يجب على المحتسب أن يتدرج في إنكار المنكر مبتدئا بالدرجة الأخف، فيعرف صاحب المنكر بأن هذا الفعل منكر شرعا وأنه لا يجوز اقترافه، ثم ينهاه عنه بالوعظ والتخويف من الله تعالى، فإن أبى فيغلظ في القول ثم بالتهديد والتخويف، فإن لم ينته -وكان الناهي محتسبا أو ذا سلطة- سعى إلى التغير باليد، وذلك بناء على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» والمراد بتغيير اليد هنا إزالة المنكر فقط دون تجاوز ولا تعد على فاعله، فإن كان المنكر خمرا أزيلت، أو صنما كسر، ونحو ذلك.
والتثبت: على المحتسب أن يتبين الأمر حتى يتضح له قبل أن يحكم عليه بالإنكار رعاية لحقوق الغير وصونا لحرمات الناس، فمتى ثبت له داعي الإنكار أقدم فأنكر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]