قيل: لا ريب أنهما جاءا تائبين، ولا ريب أن الحد أقيم عليهما، وبما احتج أصحاب القول الآخر، وسألت شيخنا (?) عن ذلك، فأجاب بما مضمونه بأن الحد مطهر، وأن التوبة مطهرة وها اختارا التطهر بالحد على التطهير بالتوبة، وأبيا إلا أن يطهرا بالحد، فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعز (هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) . ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به (اذهب فقد غفر الله لك) وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردهما النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وهما يأبيان إلا إقامته عليهما.
وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة وبين مسلك من يقول: لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم) .
يتبين للقارئ أن أدلة التفريق بين المحارب وغيره لا تثبت دلالتها أمام النقد ومنه يتبين أيضاً أنه لا دليل على التفريق، وأن الأدلة من السنة الصحيحة والقياس الأولى تدل بوضوح على سلامة اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى للقول بعدم التفريق: فتقبل توبة مرتكب الجريمة الحدية قبل القدرة عليه وتسقط عنه الحد. وهذا كما تقتضيه أدلة الشريعة فهو الموافق لروح التشريع وتقتضيه رحمة ربّ العالمين واتساعها للعفو عن المذنبين ورفع العقاب عن التائبين والله أعلم.