ليس بعقل. وأيضًا فإن هذا ليس بطريق للتحديد، لأن التحديد إنما يراد به تفسير المحدود وتبيينه، وقولنا "عقل" أبين وأكثر تمييزًا مما ليس بعقل من قولنا "بعض العلوم الضرورية" فإنه لا يفهم من لفظ الحد ولا يتميز به من غيره، ولذلك لا يجوز أن يقال في حد الجوهر إنه بعض المحدثات.
فصل: ومحله القلب. هذا الذي ذهب إليه مالك رضي اللَّه عنه، وهو قول أهل السنة من المتكلمين.
وقال أبو حنيفة: محله الرأس. وبه قالت المعتزلة.
وتتعلق به مسألة من الفقه، وذلك أن من شج رجلًا موضحة، فذهب عقله، لزمه عند مالك دية العقل وأرش الموضحة، لأنه إنما أتلف عليه منفعة ليست في عضو الشجة، فتكون الشجة تبعًا لها.
وقال أبو حنيفة: إنما عليه دية العقل فقط، لأنه لما شج رأسه وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج دخل أرش الشجة في الدية.
والصحيح ما قاله مالك رحمه اللَّه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: الآية 46]، فوصف القلوب بأنها يعقل بها، فلولا أن العقل موجود بها لما وصفت بذلك حقيقة، كما لا توصف الأذن بأنه يُرى بها ولا يُصغي بها. وأيضًا فإنه قال {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: الآية 46] فأضاف منفعة كل عضو إليه كما فعل في الأذن. وكما قال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: الآية 195] فأضاف إلى كل عضو المنفعة المخصوصة به، فثبت بذلك أن العقل منفعة القلب ومختص به.
والفقه: معرفة الأحكام الشرعية.
ذهب مشايخنا إلى أن حد الفقه معرفة أحكام المكلفين، ونُقض لهم هذا الحد بأن من الفقه معرفة أحكام من ليس بمكلف من بني آدم وسائر الحيوان.
وجاوب القاضي أبو بكر عن ذلك بأن قال: إن هذا النقض لا يلزم، لأن المكلفين هم المطلوبون بها، وذلك معنى إضافتنا إليهم، ولا يصح على هذا أن يكون حكم لغير مكلف.