مُفَرَّغًا بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ " إِلَّا " فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، أَيْ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِي مُكْرِمًا لَهُ، وَمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُسِيئًا إِلَيَّ، وَمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ شَاكِرًا لِلنِّعْمَةِ. وَهَذَا مُشْكِلٌ ; فَإِنَّ الْحَالَ مُقَيِّدَةٌ لِعَامِلِهَا وَمُقَارِنَةٌ لَهُ، وَلَيْسَ الْإِكْرَامُ مُقَيَّدًا بِمَجِيءِ زَيْدٍ بِحَسْبِ الْمَقْصُودِ وَلَا مُقَارِنًا لَهُ فِي الزَّمَنِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَمْثِلَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: اجْعَلِ الْحَالَ مُقَدَّرَةً كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا، أَيْ مُرِيدًا الصَّيْدَ بِهِ، فَكَذَا فِي الْأَمْثِلَةِ، أَيْ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِي مُرِيدًا لِإِكْرَامِهِ، وَمَا أَحْسَنْتُ إِلَى لَئِيمٍ إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُرِيدًا الْإِسَاءَةَ إِلَيَّ، وَمَا أَنْعَمْتُ عَلَى عَمْرٍو إِلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ مُرِيدًا الشُّكْرَ، وَعَلَى هَذَا تَتَأَتَّى الْمُقَارَنَةُ وَالتَّقْيِيدُ، وَلَا إِشْكَالَ.
قُلْتُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى مُمْكِنُ الِاسْتِقَامَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْغَرَضِ الْمَصُوغِ لِهَذَا الْكَلَامِ ; إِذِ الْمَقْصُودُ كَمَا سَبَقَ وُقُوعُ مَضْمُونِ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مُرَتَّبًا عَلَى مَضْمُونِ مَا بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْعَامِكَ عَلَى عَمْرٍو فِي حَالِ إِرَادَتِهِ لِلشُّكْرِ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ مُرَتَّبًا عَلَى الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ ; لِجَوَازِ تَخَلُّفِ مُتَعَلِّقِ الْإِرَادَةِ الْحَادِثَةِ عَنْهَا، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي بَقِيَّةِ الْأَمْثِلَةِ، فَقَدْ ظَهَرَ امْتِنَاعٌ جَعْلِ مَا بَعْدَ إِلَّا حَالًا، لَا مِنْ قَبِيلِ الْحَالِ الْمُحَقَّقَةِ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ، وَلَا مَسَاغَ لِغَيْرِ الْحَالِ فِيهِ فِيمَا يَظْهَرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ، فَتَقَرَّرَ الْإِشْكَالُ.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا تَجْعَلُ التَّفْرِيعَ بِاعْتِبَارِ ظَرْفِ الزَّمَانِ، أَيْ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ فِي حِينٍ مِنَ الْأَحْيَانِ إِلَّا فِي حِينٍ أَكْرَمْتُهُ، فَحَذَفَ الْحِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جِئْتُكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، أَيْ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. قُلْتُ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الظَّرْفَ فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى زَعْمِكَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا يُحْذَفُ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ وَتَقُومُ الْجُمْلَةُ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا كَمَا فِي جِئْتُكَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَمَا أَجَازَهُ أبو حيان فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ} [البقرة: 48] مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ " يَوْمًا يَوْمَ لَا تَجْزِي نَفْسٌ "، فَأَبْدَلَ يَوْمَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ مَرْدُودٌ ; قَالَ ابن هشام: لَا نَعْلَمُ هَذَا وَاقِعًا فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ إِنِ ادَّعَى عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَحَلِّهَا مِنَ الْجَرِّ فَشَاذٌّ، أَوْ أَنَّهَا أُنِيبَتْ عَنِ الْمُضَافِ فَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ مَفْعُولًا فِي مِثْلِ هَذَا