الحاوي للفتاوي (صفحة 693)

فَيَكُونُ مُرْسَلًا لِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ الْمُبَلِّغِ لَهُ مِنَ السَّنَدِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْأَمْرُ الثَّانِي الْمَنْقُولُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ عَاضِدًا لِذَلِكَ الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ مِنْ وُجُوهِ اعْتِضَادِ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا أَنْ يُوَافِقَهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ، فَيَكُونُ هَذَا عَاضِدًا ثَالِثًا بَعْدَ الْعَاضِدَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَهُمَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُشْتَمِلًا عَلَى جُمْلَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُرْسَلَةٍ، وَجُمْلَةٍ مَوْقُوفَةٍ مُتَّصِلَةٍ عَاضِدَةٍ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمُرْسَلَةِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُمَا طَاوُسٌ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ تَوْجِيهُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ اسْتِحْبَابُ الْإِطْعَامِ عَنِ الْمَوْتَى مُدَّةَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، فَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَهُ وُرُودُ فِتْنَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ؛ وَلِهَذَا فَرَّعَهُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ حَيْثُ قَالَ: فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنَّ يُطْعَمَ عَنْهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ، وَنَظِيرُ هَذَا الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ الْمِنْدِيلُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِأَنَّ مَاءَ الْوُضُوءِ يُوزَنُ، أَرَادَ الزُّهْرِيُّ - وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ - تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ - وَهُوَ تَرْكُ التَّنْشِيفِ بَعْدَ الْوُضُوءِ - بِسَبَبٍ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، لِأَنَّ وَزْنَ مَاءِ الْوُضُوءِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مَوْرِدَ التَّعْلِيلِ أَوْرَدَهُ مُرْسَلًا مَحْذُوفًا مِنْهُ الصَّحَابِيُّ.

وَقَدْ قَالَ النووي فِي آخِرِ " شَرْحِ مُسْلِمٍ " قَدْ عَمِلَتِ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ بِهَذَا، فَيُفْتِي الْإِنْسَانُ مِنْهُمْ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْفُتْيَا دُونَ الرِّوَايَةِ وَلَا يَرْفَعُهُ، فَإِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ آخَرَ رَفَعَهُ.

وَقَالَ الرافعي فِي " شَرْحِ الْمُسْنَدِ ": قَدْ يَحْتَجُّ الْمُحْتَجُّ وَيُفْتِي الْمُفْتِي بِلَفْظِ الْحَدِيثِ وَلَا يُسْنِدُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَثَرُ طَاوُسٍ أَمْرًا ثَانِيًا، وَهُوَ اتِّصَالُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الْإِطْعَامَ عَنِ الْمَوْتَى تِلْكَ الْأَيَّامَ السَّبْعَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّثْبِيتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ كَانَ نَاشِئًا عَنِ التَّوْقِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ لَا الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَدْ زَالَ، وَتَبَيَّنَ الِاتِّصَالُ بِنَقْلِ طَاوُسٍ عَنِ الصَّحَابَةِ؛ وَلِهَذَا قُلْتُ فِي أُرْجُوزَتِي:

إِسْنَادُهُ قَدْ صَحَّ وَهْوَ مُرْسَلُ ... وَقَدْ يُرَى مِنْ جِهَةٍ يَتَّصِلُ

لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَتَبَيَّنُ اتِّصَالُهُ مِنْ جِهَةِ مَا نَقَلَهُ طَاوُسٌ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنِ اسْتِحْبَابِ الْإِطْعَامِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمُسْتَلْزِمِ لِكَوْنِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْفِتْنَةُ فِيهَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ السِّرُّ فِي إِرْسَالِ طَاوُسٍ الْحَدِيثَ وَعَدَمَ تَسْمِيَةِ الصَّحَابِيِّ الْمُبَلِّغِ لَهُ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ مَشْهُورًا إِذْ ذَاكَ، وَالْمُبَلِّغُونَ لَهُ فِيهِمْ كَثْرَةٌ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015