الْجَزِيلَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا غُدْوَةً أَوْ رَوْحَةً إِلَى الْجَنَّةِ، فَإِذَا أُدْخِلَ الْقَبْرَ تُلُقِّيَ بِحُزْمَةٍ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ، يَجِدُ رِيحَهَا كُلُّ ذِي رِيحٍ غَيْرَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.»
قَالَ أبو جعفر: كَانَ علي بن حسين إِذَا ذَكَرَ أَشْبَاهَ هَذَا الْحَدِيثِ بَكَى ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي لَأَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَكْتُمَهُ، وَلَئِنْ أَظْهَرْتُهُ لَيَدْخُلَنَّ عَلَيَّ أَذًى مِنَ الْفَسَقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ علي بن حسين ذَكَرَ حَدِيثَ الَّذِي يُنَادِي حَمَلَتَهُ، فَقَالَ ضمرة بن معبد - رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ - وَاللَّهِ يَا علي بن حسين لَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَفْعَلُ كَمَا زَعَمْتَ بِمُنَاشَدَتِكَ حَمَلَتَهُ إِذًا لَوَثَبَ عَنْ أَيْدِي الرَّجُلِ مِنْ سَرِيرِهِ، فَضَحِكَ أُنَاسٌ مِنَ الْفَسَقَةِ، وَغَضِبَ علي بن حسين وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ ضمرة كَذَّبَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُكَ، فَخُذْهُ أَخْذَ أَسِفٍ، فَمَا لَبِثَ ضمرة إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى مَاتَ فَجْأَةً.
قَالَ أبو جعفر: فَأَشْهَدُ عَلَى مسلم بن شعيب مَوْلَاهُ - وَكَانَ مَا عَلِمْنَاهُ خِيَارًا - أَنَّهُ أَتَى علي بن حسين لَيْلًا فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ ضمرة أَعْرِفُهُ كَمَا كُنْتُ أَعْرِفُ صَوْتَهُ حَيًّا وَهُوَ يُنَادِي فِي قَبْرِهِ: وَيْلٌ طَوِيلٌ لضمرة إِلَّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْكَ كُلُّ خَلِيلٍ، وَحَلَلْتَ فِي نَارِ الْجَحِيمِ فِيهَا مَبِيتُكَ وَالْمَقِيلُ، فَقَالَ علي بن حسين: نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، هَذَا جَزَاءُ مَنْ ضَحِكَ وَأَضْحَكَ النَّاسَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَانْظُرْ كَيْفَ ذَكَرَ علي بن حسين الْحَدِيثَ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِعَزْوِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتِّكَالًا عَلَى عِلْمِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُهُ التَّوْقِيفُ وَالسَّمَاعُ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحُكْمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا بِالرَّفْعِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَثَرَ طَاوُسٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمُرْسَلِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى التَّابِعِيِّ صَحِيحٌ، كَانَ حُجَّةً عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وأحمد مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَأَمَّا عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ إِذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُقَرَّرَةٍ فِي مَحَلِّهَا، مِنْهَا مَجِيءُ آخَرَ أَوْ صَحَابِيٍّ يُوَافِقُهُ، وَالِاعْتِضَادُ هَاهُنَا مَوْجُودٌ، فَإِنَّهُ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهُمَا تَابِعِيَّانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عبيد صَحَابِيًّا، فَهَذَانِ مُرْسَلَانِ آخَرَانِ يُعَضِّدَانِ الْمُرْسَلَ الْأَوَّلَ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ: حَدَّثَنَا أبو بكر، عَنْ علي بن عبد الله قَالَ: قَالَ يحيى بن سعيد: مُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ بِكَثِيرٍ، كَانَ عطاء يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ ضَرْبٍ، قَالَ علي: قُلْتُ ليحيى: مُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ مُرْسَلَاتُ طَاوُسٍ؟ قَالَ: مَا أَقْرَبَهُمَا.
وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِثُبُوتِ الصُّحْبَةِ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَكُونُ مَرْفُوعًا مُتَّصِلًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَثَرُ طَاوُسٍ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لَهُ يُرَقِّيهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الصِّحَّةِ، وَقَدِ احْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَثَرِ عُبَيْدِ بْنِ