مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَحَتَّى لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ، بَلْ مُجَرَّدُ حَرْفِ عَطْفٍ بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْحَدِيثِ: مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي قَبْلَ ذَلِكَ فَأَرُدُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْإِشْكَالُ مِنْ ظَنِّ أَنَّ جُمْلَةَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَظَنِّ أَنَّ حَتَّى تَعْلِيلِيَّةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَأَيَّدَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّدَّ وَلَوْ أُخِذَ بِمَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَزِمَ تَكَرُّرُهُ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَكَرُّرُ الرَّدِّ يَسْتَلْزِمُ تَكْرَارَ الْمُفَارَقَةِ، وَتَكْرَارُ الْمُفَارَقَةِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَحْذُورَانِ: أَحَدُهُمَا تَأْلِيمُ الْجَسَدِ الشَّرِيفِ بِتَكْرَارِ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ أَوْ نَوْعٍ مَا مِنْ مُخَالَفَةِ التَّكْرِيمِ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَأْلِيمٌ، وَالْآخَرُ مُخَالَفَةُ سَائِرِ النَّاسِ الشُّهَدَاءَ وَغَيْرَهُمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَكَرَّرَ لَهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ وَعَوْدُهَا فِي الْبَرْزَخِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالِاسْتِمْرَارِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى رُتْبَةٍ، وَمَحْذُورٌ ثَالِثٌ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ، وَهَذَا التَّكْرَارُ يَسْتَلْزِمُ مَوْتَاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَحْذُورٌ رَابِعٌ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ السَّابِقَةِ وَمَا خَالَفَ الْقُرْآنَ وَالْمُتَوَاتِرَ مِنَ السُّنَّةِ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلِ التَّأْوِيلُ كَانَ بَاطِلًا ; فَلِهَذَا وَجَبَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ أَنَّ لَفْظَ الرَّدِّ قَدْ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُفَارَقَةِ، بَلْ كَنَّى بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الصَّيْرُورَةِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] إِنَّ لَفْظَ الْعَوْدِ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الصَّيْرُورَةِ لَا الْعَوْدُ بَعْدَ انْتِقَالٍ ; لِأَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ قَطُّ، وَحُسْنُ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْمُنَاسَبَةِ اللَّفْظِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: " «حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ» "، فَجَاءَ لَفْظُ الرَّدِّ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا، أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الرُّوحِ عَوْدَهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ لِلْبَدَنِ، وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَرْزَخِ مَشْغُولٌ بِأَحْوَالِ الْمَلَكُوتِ مُسْتَغْرِقٌ فِي مُشَاهَدَةِ رَبِّهِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فِي حَالَةِ الْوَحْيِ وَفِي أَوْقَاتٍ أُخَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ إِفَاقَتِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ الِاسْتِغْرَاقِ بِرَدِّ الرُّوحِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي اللَّفْظَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ وَهِيَ قَوْلُهُ: " «فَاسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» "، لَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِيقَاظَ مِنْ نَوْمٍ فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ لَمْ يَكُنْ مَنَامًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْإِفَاقَةُ مِمَّا خَامَرَهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ، وَهَذَا الْجَوَابُ الْآنَ عِنْدِي أَقْوَى مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ لَفْظَةِ الرَّدِّ، وَقَدْ كُنْتُ رَجَّحْتُ الثَّانِيَ ثُمَّ قَوِيَ عِنْدِي هَذَا.