بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْهُ سَنَدًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَثَالِثًا أَنَّ تِلْكَ مُثْبِتَةٌ وَهَذَا نَافٍ، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ عِنْدَ التَّعَارُضِ تَقْدِيمُ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي، خُصُوصًا أَنَّ الَّتِي رَوَتِ الْإِثْبَاتَ بَاشَرَتِ الْوَاقِعَةَ، وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ أَجْدَرُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ ; فَإِنَّهَا مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْخَلْوَةِ غَالِبًا، لَا بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَجْوِبَةٍ، وَسَادِسٌ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، فَتَارَةً كَانَ يَتَنَوَّرُ وَتَارَةً كَانَ يَحْلِقُ وَلَا يَتَنَوَّرُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَتَقَدَّمَ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَوَّرُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ عَنْ مسكين بن عبد العزيز، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَارِيَتُهُ تَحْلِقُ عَنْهُ الشَّعَرَ، فَقَالَ: إِنَّ النُّورَةَ تُرِقُّ الْجِلْدَ. فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، هَذَا فِي أَوْقَاتٍ وَهَذَا فِي أَوْقَاتٍ، نَعَمْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّنَوُّرَ وَيُعَلِّلُهُ بِأَنَّهُ مِنَ النَّعِيمِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا حبان بن علي، عَنْ محمد بن قيس الأسدي، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَطِيبُ بِالْحَدِيدِ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنَوَّرُ؟ قَالَ: إِنَّهَا مِنَ النَّعِيمِ وَأَنَا أَكْرَهُهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وكيع، عَنْ محمد بن قيس الأسدي، عَنْ علي بن أبي عائشة قَالَ: كَانَ عمر رَجُلًا أَهْدَبَ، وَكَانَ يَحْلِقُ عَنْهُ الشِّعَرَ، وَذُكِرَتْ لَهُ النُّورَةُ فَقَالَ: النُّورَةُ مِنَ النَّعِيمِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ الْإِكْثَارَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: حَدَّثَنَا بقية، حَدَّثَنِي أرطاة بن المنذر، حَدَّثَنِي بَعْضُهُمْ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَمَّامِ، وَكَثْرَةَ طِلَاءِ النُّورَةِ، وَالتَّوَطِّيَ عَلَى الْفُرُشِ ; فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ. فَهَذَا الْأَثَرُ قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ، وَأَوْلَى مَا اعْتُمِدَ فِي التَّوْقِيتِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقُ، وَهُوَ التَّنَوُّرُ كُلَّ شَهْرٍ، فَيُكْرَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا حماد بن الحسن بن عنبسة الوراق، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ، ثَنَا حميد - يعني ابن يعقوب مولى بني هاشم، وَكَانَ ثِقَةً - عَنِ العباس بن فضل، عَنِ القاسم، عَنْ أبي حازم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَكْذِبُوا، فَوَاللَّهِ مَا اطَّلَى نَبِيٌّ قَطُّ، لَكِنْ قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: مَا اطَّلَى نَبِيٌّ قَطُّ ; أَيْ: مَا مَالَ إِلَى هَوَاهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ مَيْلِ الطُّلَى، وَهِيَ الْأَعْنَاقُ، وَاحِدَتُهَا طُلَاةٌ، يُقَالُ: أَطْلَى الرَّجُلُ إِطْلَاءً: إِذَا مَالَتْ عُنُقُهُ إِلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ. انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُلَخَّصِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ فِي حَدِيثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا