الْقُرْآنِ كَرَّرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَهُوَ قُدْوَةٌ فِي الْعُلُومِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، وَلَوْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ نَقْلًا وَبَحْثًا لَاتَّسَعَ جِدًّا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْبَيَانِ وَأَئِمَّةُ الْفَصَاحَةِ وَأَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي بَدَائِعِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ فَقَدْ أَوْضَحُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَسَمَّوْهُ بِالِاقْتِبَاسِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ الْجَوَازِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنْ حُسْنِ الْكَلَامِ وَجَيِّدِهِ وَمَعْدُودًا فِي طَبَقَاتِ الْفَصَاحَةِ إِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْبَدِيعِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى، وَأَئِمَّةُ الْفَصَاحَةِ وَهُوَ كَمَا تَرَى أَمْرٌ بَيِّنٌ مَعْلُومٌ وَاضِحٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ وَشَوَاهِدُهَا مِنَ السُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُصَحَاءِ كَثِيرٌ جِدًّا.
وَمِمَّا اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الِاقْتِبَاسِ مَعَ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ قَوْلُ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ:
قَدْ كَانَ مَا خِفْتُ أَنْ يَكُونَا ... إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاجَعُونَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
يُرِيدُ الْجَاهِلُونَ لِيُطْفِئُوهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّهْ
وَمِمَّا اسْتَشْهَدُوا بِهِ عَلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ قَوْلُ ابن عباد:
قَالَ لِي إِنَّ رَقِيبِي ... سَيِّئَ الْخُلْقِ فَدَارِهْ
قُلْتُ دَعْنِي وَجْهَكَ الْجَ ... نَّةُ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهْ
وَهَذَا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَدِيثَ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مُوَافَقَةٌ فِي ظَاهِرِ عِبَارَةٍ فَقَطْ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُسَدِّدُ وَالْهَادِي، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. انْتَهَى جَوَابُ الشَّيْخِ داود الشاذلي بِلَفْظِهِ، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ أَخَذَ التَّصَوُّفَ عَنِ الشَّيْخِ تاج الدين بن عطاء الله، وَالْعُلُومَ عَنِ الشَّيْخِ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري شَارِحِ مِنْهَاجِ الْبَيْضَاوِيِّ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَلَهُ مُؤَلَّفَاتٌ جَيِّدَةٌ تُؤْذِنُ بِطُولِ بَاعٍ، وَرُسُوخِ قَدَمٍ وَسَعَةِ اطِّلَاعٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَفَعَنَا بِهِ.