تَارَةً أَنَّ مُصْعَبًا صَلَّى بِالنَّاسِ، وَيُرْوَى تَارَةً أُخْرَى أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى بِهِمْ، وَرُوِيَ تَارَةً بِالْمَدِينَةِ، وَتَارَةً بِبَنِي بَيَاضَةَ، فَلِأَجْلِ اضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ رِوَايَتِهِ لَمْ يَصِحَّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قِيلَ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ، لِأَنَّ مُصْعَبًا كَانَ الْآمِرَ بِهَا، وَأَسْعَدُ الْفَاعِلَ لَهَا، فَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى مُصْعَبٍ فَلِأَجْلِ أَمْرِهِ، وَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى أَسْعَدَ فَلِأَجْلِ فِعْلِهِ، وَمَنْ رَوَى بِبَنِي بَيَاضَةَ فَعَيَّنَ مَوْضِعَ فِعْلِهَا، وَمَنْ رَوَى بِالْمَدِينَةِ فَنَقَلَ أَشْهَرَ مَوَاضِعِهَا، لِأَنَّ بَنِي بَيَاضَةَ مِنْ سَوَادِ الْمَدِينَةِ
وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَغَلِطَ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ، فَأَمَّا غَلَطُ الْمُزَنِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ: فَهُوَ قَوْلُهُ وَاحْتَجَّ بِمَا لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَّعَ بِأَرْبَعِينَ، وَهَذَا لَعَمْرِي حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ هَذَا الْمُقَدَّمِ
وَأَمَّا غَلَطُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ فَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَدِيثِ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ ضَعِيفًا، طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ضَعِيفًا، لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَدْ نَقَلَهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَدْ أَتْقَنَهُ وَقَدْ روي هذا الحديث من جهة عبد الرازق
فَلَمْ يَكُنْ ضَعْفُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُزَنِيِّ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُ أَشَارَ بِضَعِيفِ الْحَدِيثِ إِلَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَغَلِطَ الْمُزَنِيُّ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ
ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ طَرِيفٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَسَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَتَوَاضَعُونَ الْحَدِيثَ "، وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظُهْرًا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نُقِلَ الْفَرْضُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ عَلَى شَرَائِطَ وَأَوْصَافٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْسَخَ الظُّهْرُ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ شَرْعًا ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلَالَةِ التَّوْقِيفِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا تَوْقِيفَ مَعَهُمْ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا إِجْمَاعَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْجُمْعَةِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِوَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا، وَلَيْسَ لبعض الأعداد مزية عَلَى بَعْضٍ، كَانَ مَا اعْتَبَرْنَا مِنْ عَدَدِ الْأَرْبَعِينَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ