وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى سَفَرَ مَا قَرُبَ لَمْ يَقْصُرْ، وَلَوْ نَوَى سَفَرَ مَا بَعُدَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ، فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ مَا قَرُبَ قَدْ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا بَعُدَ. فَإِذَا صَحَّ مَا ذكرناه فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنَا
: قال الشافعي في كتاب " الأم ": " وإذا خرب البلد، وتهدم بُنْيَانُهُ، وَبَقِيَ فِيهِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى عِمَارَةِ مَا خَرِبَ، وَبِنَاءِ مَا انْهَدَمَ، لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَوْطِنُونَ "
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَفِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، وَكَانَ يَبْلُغُ أَهْلَ الْبَلَدِ النِّدَاءُ، لَزِمَهُمُ السَّعْيُ إِلَى الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ، فَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ، وَفِي الْقَرْيَةِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانُوا إِذَا اجمتعوا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، لَمْ تَلْزَمْهُمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِذَا سَعَى إِلَى الْآخَرِينَ خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْطِنِينَ، فَلَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُ الجمعة بهم
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ وَالْمَنَازِلِ وَكَانَ أَهْلُهَا لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا أَرْبَعِينَ رَجُلًا حُرًّا بَالِغًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الجمعة واحتج بما لا يثبته أهل الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين قدم المدينة جمع بأربعين رجلاً وعن عبيد الله بن عبد الله أنه قال " كل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم الجمعة " ومثله عن عمر بن عبد العزيز "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي المكان الذي تَنْعَقِدُ فِيهِ الْجُمْعَةُ، وَالثَّانِي: فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ
فَأَمَّا الْمَكَانُ: فَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا تَنْعَقِدُ فِي الْأَمْصَارِ، وَالْقُرَى إِذَا كَانَتِ الْقَرْيَةُ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ، وَكَانَ لَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، وَلَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِصْرًا جَامِعًا، فَيَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا. وَحَدُّ الْمِصْرِ عِنْدَهُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِمَامٌ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ، وَجَامِعٌ وَمِنْبَرٌ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْ نَصِّ قَوْلِهِ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ " قَالُوا: وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ وَالْقُرَى مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عُمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لَا يَجُوزُ أَنْ يبينه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانًا خَاصًّا، بَلْ يُشَرِّعُهُ شَرْعًا عَامًّا، وَلَا يُنْقَلُ آحَادًا بَلْ يُنْقَلُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَذَلِكَ معدوم