وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْفَسْخُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَيُؤْخَذُ الْمُكَاتَبُ جَبْرًا بِدَفْعِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَهُ مَا أَقْنَعَ، وَإِذَا أَجَازَ الْفَسْخَ مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ فِيهِ كَمَا لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُشْتَرِي، إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِيهِ.
قال الشافعي رضي الله عنه: (فَإِنْ سَأَلَهُ أَنْ يُنْظِرَهُ مُدَّةً يُؤَدِّي إِلَيْهَا نَجْمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُنْظِرَهُ إِلَّا أَنْ يُحْضِرَهُ مَالَهُ يَبِيعُهُ مَكَانَهُ إِلَى الْمُدَةِ فَيُنْظِرَهُ قَدْرَ بَيْعِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا سَأَلَ الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ الْإِنْظَارَ بِمَالِ النَّجْمِ بَعْدَ حُلُولِهِ لَمْ يَخْلُ سُؤَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِاكْتِسَابٍ وَطَلَبٍ، فَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِنْظَارُهُ، وَلَا لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْمُرَهُ، بِالْإِنْظَارِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا اسْتَنْظَرَهُ مِنَ الزَّمَانِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، لِأَنَّ الْإِنْظَارَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجَلِ، وَالْآجَالُ لَا تُلْزَمُ إِلَّا فِي الْعُقُودِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَنْظِرَهُ لِبَيْعِ مَتَاعٍ قَدْ أَحْضَرَهُ، فَيَلْزَمُهُ إِنْظَارُهُ قَدْرَ بَيْعِهِ، لِأَنَّهُ إِنْظَارٌ لِتَأْدِيَةِ الْحَقِّ، لَا لِاكْتِسَابِهِ وَطَلَبِهِ، وَهَذَا الْإِنْظَارُ هُوَ عِلَّةٌ لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ بِأَجَلٍ زَائِدٍ عَلَى الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَلِيلُ الزَّمَانِ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَنْظِرَهُ لِمَالٍ لَهُ غَائِبٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْظِرَهُ إِلَى حِينِ نَقْلِهِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةَ، فَلَا يَلْزَمُهُ إِنْظَارُهُ لِأَنَّهُ كَالْعَادِمِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَنْظِرَهُ لِاقْتِضَاءِ دَيْنٍ لَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، فَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِنْظَارُهُ إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ، لِأَنَّهُ زِيَادَةُ أَجْلٍ، وَلَيْسَ بِإِمْهَالٍ لِتَأْدِيَةِ مَالٍ قَدْ وَجَبَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى مُوسِرٍ، فَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِمْهَالُهُ لِاقْتِضَاءِ دَيْنِهِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمُوسِرِ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ عَلَى مُعْسِرٍ، فَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِنْظَارُهُ إِلَى قَبْضِ دَيْنِهِ لأن ما على المعسر تاو، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ.