وَالْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ، تَرِثُ وَلَا تُوَرَّثُ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا قِيَاسًا مُسْتَمِرًّا فِي غَيْرِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ، فَلَمْ يَلْزَمْ فِي الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: (النَّاسُ يَرِثُونَ مِنْ حَيْثُ يُوَرَّثُونَ) قِيلَ لَهُ: لَمْ يَقُلْهُ الشَّافِعِيُّ تَعْلِيلًا عَامًّا، فَيَجْعَلُهُ قِيَاسًا مُسْتَمِرًّا، وَإِنَّمَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِمَاءِ أَبِيهِ وَلَمْ يُوَرِّثْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثَ أَبٍ، وَوَرَّثَ الْوَلَدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِيرَاثَ ابْنٍ، فَقَالَ: النَّاسُ يَرِثُونَ مِنْ حَيْثُ يُوَرَّثُونَ؛ لِأَنَّهُ كَمل النَّسَبِ، وَلَمْ يكْملِ الْمِيرَاثُ فَتَوَجَّهَ الرَّدُّ بِهِ لِلشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَتَوَجَّهِ الرَّدُّ بِهِ للمزني.
وَإِذَا مَاتَ هَذَا الَّذِي تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ هَلْ يُوَرَّثُ أَمْ لَا؟
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُوَرَّثُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَيَكُونُ مَالُهُ لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرِثْ بِحُرَّيَّتِهِ، لَمْ يُوَرَّثْ بِهَا. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ سَيِّدِ رِقِّهِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ: يَكُونُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَسَيِّدِ رِقِّهِ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ. فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي طَائِفَةٍ يُخَرِّجُونَ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: تَكُونُ لِسَيِّدِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ.
وَالثَّانِي: تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ.
وَالثَّالِثُ: تَكُونُ بَيْنَهُمَا تُوَرَّثُ عَنْهُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، وَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ، تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَطَائِفَةٌ مِنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ، يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَخْرِيجِ هَذِهِ النُّصُوصِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ، وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ مَاتَ فِي زَمَانِ سَيِّدِهِ وَقَدِ اسْتُهْلِكَ مَا كَانَ قَدْ مَلَكَهُ بِحُرِيَّتِهِ يَكُونُ مَالُهُ لِسَيِّدِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ، وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ إِذَا كَانَ قَدْ مَاتَ فِي زَمَانِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَخَذَ السَّيِّدُ مَا مَلَكَهُ عند برقه، فَيَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ بِالْحَقَّيْنِ، كَانَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالسَّيِّدِ مِيرَاثًا بِالْحُرِّيَّةِ، وَمِلْكًا بِالرِّقِّ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، يَكُونُ جَمِيعُ مَا يُخَلِّفُهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا بِالْحُرِّيَّةِ، وَالرِّقِّ، مُنْتَقِلًا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، لَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَرَثَةُ، لِبَقَاءِ أَحْكَامِ رِقِّهِ، فَكَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَوْلَى الْجِهَاتِ بِاسْتِحْقَاقِهِ.