وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ لِصَدِيقِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُلَاطِفِ، لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ بِأَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمَالٍ يَصِيرُ إِلَيْهِ بِالْمُلَاطَفَةِ بَعْضُهُ. فَصَارَ جَارًّا بِهَا نَفْعًا.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمَوَدَّةَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْهَدِيَّةُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهَا مُوجِبًا لِرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْعَدُوَّ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعَدَاوَةِ.
وَلِأَنَّ ذوي الأنساب مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إليهم بالميراث فاشهدوا بِهِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَالصَّدِيقُ الْمُلَاطِفُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ.
وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَكَرَ مِنْ جَوَازِ عَوْدِهِ إِلَى الصَّدِيقِ بِالْهَدِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يهاديه [ولا يُهَادِيَهُ] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ مُهَادَاتِهِ وَيَجُوزُ إِذَا هَادَاهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيلِ الْمَنْعِ بِهَذَا وَجْهٌ والله أعلم.
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا لِوَلَدِ بَنِيهِ وَلَا لِوَلَدِ بَنَاتِهِ وَإِنْ سَفُلُوا وَلَا لِآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَإِنْ بَعُدُوا ".
قَالَ الماوردي: وهذا صحيح، ولا تقبل شهادة الوالد لمولديه بِهِ وَإِنْ سَفُلُوا، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ وَإِنْ بَعُدُوا.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ جَائِزَةٌ.
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] وَلَا يُؤْمَرُ بِالْقِسْطِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إِلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ وَلِأَنَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ حَاكَمَ يَهُودِيًّا إِلَى شُرَيْحٍ فِي دِرْعٍ ادَّعَاهُ فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَهَا. فَشَهِدَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ.
وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ أَقْبَلُ شَهَادَةَ ابْنِكَ لَكَ؟
فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَيِّ كِتَابٍ وَجَدْتَ هَذَا؟ أَوْ فِي أَيِّ سُنَّةٍ. وَعَزَلَهُ وَنَفَاهُ إلى قرية يقال لها بالصفا، نَيِّفًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ الدِّينَ وَالْعَدَالَةَ يَحْجِزَانِ عَنِ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ والكذب.