قال الشافعي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وَقَالَ {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قَالَ فَالْعِلْمُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِنْهَا مَا عَايَنَهُ فَيَشْهَدُ بِهِ وَمِنْهَا مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَثَبَتَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي الْقُلُوبِ فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا أَثْبَتَهُ سَمْعًا مَعَ إِثْبَاتِ بَصَرٍ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْعِلْمُ بِهَا فِي حَالَةِ التَّحَمُّلِ وَحَالَةِ الْأَدَاءِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء: 36] فَكَانَ دَلِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا عَلِمَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفُؤَادِهِ، فَالسَّمْعُ لِلْأَصْوَاتِ، وَالْبَصَرُ لِلْمَرْئِيَّاتِ، وَالْفُؤَادُ لِلْمَعْلُومَاتِ، فَجَمَعَ فِي الْعِلْمِ بِهِ بَيْنَ جَمِيعِ أَسْبَابِهِ، لِيَخْرُجَ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ إِلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فَشَرَطَ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ مَعْلُومٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِحَقٍّ غَيْرِ مَعْلُومٍ، وَلَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْلُومٍ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْعِلْمِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَشْهَدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43] وَهَذَا وَعِيدٌ يُوجِبُ التَّحَفُّظَ فِي الْعَاجِلِ، وَالْجَزَاءَ فِي الْآجِلِ.
وَرَوَى عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ: " هَلْ تَرَى الشَّمْسَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَعَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ " وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى الْحَوَاسِّ دَرْكًا، وَأَثْبَتُهَا عِلْمًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بِأَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ فِي التحمل والأداء.