وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ وَثِيقَةً، وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقِرَاضِ وَالْوَكَالَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي وُجُوبِهَا فِيهِ، وَهُوَ عُقُودُ الْبِيَاعَاتِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَدَاوُدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ وَاجِبَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَهَذَا أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمُ رَجُلٌ أَتَى السَّفِيهَ مَالَهُ، فَهُوَ يَدْعُو عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، وَرَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ، فَهُوَ يَدْعُو عَلَيْهَا لِلْخَلَاصِ مِنْهَا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ طَلَاقَهَا، وَرَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا فَلَمْ يُشْهِدْ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الشَّهَادَةِ فِي الْبَيْعِ.
وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا فِي البيوع، والكتاب يكون للشهادة، ثم قال {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْبَيْعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْوُجُوبِ.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: تَخَلَّفْتُ عَنِ النَّاسِ فِي السَّيْرِ، فلحقني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " بِعْنِي جَمَلَكَ وَأَسْتَثْنِي لَكَ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: فَبِعْتُهُ مِنْهُ " فَدَلَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابْتَاعَ مِنْ أَعْرَابِيٍّ شَيْئًا فَاسْتَتْبَعَهُ لِيَقْضِيَهُ الثَّمَنَ فَلَمَّا رَآهُ الْمُشْرِكُونَ فَطَفِقُوا وَطَلَبُوهُ بِأَكْثَرَ، فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدِ ابْتَعْتُهُ فَجَحَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ لِي، فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ لَكَ. قَالَ: بِمَ تَشْهَدُ، وَلَمْ تَحْضُرْ، فَقَالَ: نُصَدِّقُكَ عَلَى أَخْبَارِ السَّمَاءِ وَلَا نُصَدِّقُكَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَرْضِ؟ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذا