وَلِأَنَّ الْخُطُوطَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَيَزُورُ عَلَيْهَا مَا لَا يَكَادُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَيَحْتَالُ عَلَى الْخُتُومِ فَصَارَ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ مُشْتَبِهًا، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي إِلْزَامُ حَقٍّ وَإِمْضَاءُ حُكْمٍ مَعَ الِاشْتِبَاهِ وَالِاحْتِمَالِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ قَدْ فَعَلَ غَايَةَ وُسْعِهِ لِيَحْكُمَ بِهِ فَهُوَ، أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتَذَكَّرَ بِهِ لَا لِيَحْكُمَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالِاسْتِفَاضَةِ: فهو أنها استفاضة استرسال. وليس بِاسْتِفَاضَةِ اعْتِقَادٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الرِّوَايَةِ: فَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الرِّوَايَةِ أَوْسَعُ وَفِي حِفْظِهَا مَعَ الْكَثْرَةِ مَشَقَّةٌ، وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مُفَارِقَةً لِلرِّوَايَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَانَتْ مُفَارَقَتُهُ لِلْأَحْكَامِ وَالْإِلْزَامِ لِهَذَا المعنى أولى.
فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِمَّنْ لَا يَكْتُبُ الْخَطَّ وَلَا يَقْرَأَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ وِلَايَتُهُ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ النُّبُوَّةِ أَغْلَظُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمِّيًّا، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَمَلُ بِخَطِّهِ لَمْ يُؤَثِّرْ فَقْدُهُ فِي وِلَايَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ إِذَا كَانَ أُمِّيًّا حَتَّى يكتب ويقرأ؛ لأن لَا يَقوى فِي الِاجْتِهَادِ إِلَّا بِمَا يَقْرَأَهُ مِنَ الْعُلُومِ وَلَا يَحْفَظُ مَا عَلِمَهُ مِنْ شَرْعٍ وَأَمْضَاهُ مِنْ حُكْمٍ إِلَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ وَيَتَذَكَّرُهُ مِنْ خَطِّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ ".
فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، فَخَالَفَ فِيهِ مَنْ سِوَاهُ.
(إِذَا نَسِيَ الْحَاكِمُ حكمه وشهد به شاهدان) .
: قال الشافعي: " وَلَوَ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ أَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَلَا يُبْطِلُهُ وَلَا يُحِقُّهُ إِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي خَصْمَيْنِ حَضَرَا مَجْلِسَ الْقَاضِي فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ. فَذَكَرَ الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقِّي عَلَيْهِ عِنْدَكَ وَحَكَمْتَ لِي بِهِ.
فَإِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَعَلِمَهُ، حَكَمَ عَلَى الْخَصْمِ بِهِ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا مِنْهُ اسْتِئْنَافًا لِحُكْمٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِمْضَاءٌ وَإِلْزَامٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ.