أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ خَافَ هَلَاكَهُ، فَنَذَرَ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بَخِلَ بِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْلًى لِعُمَرَ قَتَلَ حَمِيمًا لَهُ فَنَذَرَ إِنْ وَصَلَ إِلَى الدِّيَةِ أَنْ يُخْرِجَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ثَعْلَبَةَ مَا نَزَل فِيهِ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ " فَحَثَا القراب عَلَى رَأْسِهِ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ صَدَقَتِهِ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ عُمَرُ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ عُثْمَانُ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، وَمَاتَ فِي أَيَّامِهِ، وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ وَعِيدٍ، وَأَعْظَمِ زَجْرٍ فِي نَقْضِ الْعُهُودِ، وَمَنْعِ النُّذُورِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ النَّذْرَ لَا يَأْتِي على ابن آدم شيئاً لم أُقَدِّرْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ شيءٌ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ يُؤْتِينِي عَلَيْهِ مَا لَا يُؤْتِينِي عَلَى الْبُخْلِ ".
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ، عَلَى أَنَّ مَا يَبْذُلُهُ مِنَ الْبِرِّ أَفْضَلُ مِمَّا يَلْتَزِمُهُ بِالنَّذْرِ.
وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ "؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْحُقُوقِ نَوْعَانِ: حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ تَتَبَرَّعَ بِالضَّمَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، جَازَ أَنْ تَتَبَرَّعَ لِضَمَانٍ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنُّذُورُ الْمَحْضَةُ ضَرْبَانِ: مُجَازَاةٌ، وَتَبَرُّرٌ.
فَأَمَّا الْمُجَازَاةُ: فَهُوَ مَا عَقَدَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَاعَةٍ يَفْعَلُهَا مُجَازَاةً عَلَى مَا يَرْجُو مِنْ نَفْعٍ، أَوْ يَسْتَدْفِعُهُ مِنْ ضرٍ فَجَعَلَهُ شَرْطًا وَجَزَاءً.
فَالشَّرْطُ مَا طُلِبَ وَالْجَزَاءُ مَا بُذِلَ، وَالشَّرْطُ الْمَطْلُوبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: طَاعَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ.