إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْفَاكِهَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ.
فَأَمَّا ثِمَارُ مَا عَدَا الْأَشْجَارِ، فَالْمَوْزُ فَاكِهَةٌ وَالْبِطِّيخُ فَاكِهَةٌ، وَلَيْسَ الْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا مِنَ الْخُضْرَاوَاتِ، لِأَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ أَلْقَابِهَا إِلَّا عِنْدَ فَسَادِهَا.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْفَاكِهَةِ حَنِثَ بِأَكْلِهِ رَطْبًا، فَإِنْ أَكَلَهُ يَابِسًا، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُنْقَلُ عَنِ اسْمِهِ بَعْدَ يُبْسِهِ، وَجَفَافِهِ كَالرُّطَبِ يُسَمَّى بَعْدَ جَفَافِهِ تَمْرًا، وَكَالْعِنَبِ يُسَمَّى بَعْدَ جَفَافِهِ زَبِيبًا، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهِ، وَقَدْ خَرَجَ عَنِ الْفَاكِهَةِ بِزَوَالِهِ عَنِ اسْمِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَنْتَقِلَ عَنِ اسْمِهِ بَعْدَ جَفَافِهِ كَالتِّينِ وَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ، فَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ لِبَقَاءِ اسْمِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِهِ لِانْتِقَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ.
وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ أُدْمًا حَنِثَ بِأَكْلِ اللَّحْمِ وَالسَّمَكِ وَالْجُبْنِ وَالْمِلْحِ وَالزَّيْتُونِ، وَبِمَا يُصْطَبَغُ بِهِ كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِمَا يُصْطَبَغُ بِهِ، وَهُوَ الْأُدْمُ خَاصَّةً، وَهُوَ مَا يَنْصَبِغُ بِهِ الْخُبْزُ مِثْلَ الْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بلحمٍ وأدمٍ، فَقَدَّمْنَا لَهُ خُبْزًا بِأُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لحمٌ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهَ، وَلَكِنْ ذَاكَ لحمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَهَا صدقةٌ، وَلَنَا هديةٌ، فَمَيَّزَتْ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْأُدُمِ فِي الِاسْمِ، فَدَلَّ عَلَى تَمْيِيزِهَا فِيهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " سَيِّدُ الْأُدْمِ اللَّحْمُ، وَنِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ "، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي اسْمِ الْأُدْمِ، فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ؛ وَلِأَنَّ اسْمَ الْأُدْمِ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْتِطَابَةِ أَكْلِ الْخُبْزِ بِهِ، حَتَّى يُسْتَحَبَّ وَيُسْتَمْرَأَ، مَأْخُوذا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَدَمَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا أَيْ أَصْلَحَ بَيْنَكُمَا بِالْمَحَبَّةِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدة فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ خَطَبَ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ".
فَحَكَى أَبُو عُبَيْدة عَنِ الْكِسَائِيِّ مَعْنَاهُ: أَنْ تَكُونَ بَيْنَكُمَا الْمَوَدَّةُ وَالِاتِّفَاقُ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّحْمِ أَوْفَى مِنْهُ فِي الصَّبْغِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِاسْمِ الْإِدَامِ أَخَصُّ.
وَتَمْيِيزُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إِنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا القسم فيما يُسْتَطَابُ بِهِ أَكْلُ الْخُبْزِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: