وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ إِذَا اتَّصَلَ بِالْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا، وَصَحَّ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
وَحُكْمُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ يَمِينِهِ بَعْضَ جُمْلَتِهَا، فَلَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِيهَا بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
اسْتِثْنَاءُ مَكَانٍ، وَاسْتِثْنَاءُ زَمَانٍ، وَاسْتِثْنَاءُ عَدَدٍ، وَاسْتِثْنَاءُ صِفَةٍ، وَفِي ذِكْرِ أَحَدِهَا بَيَانٌ لِجَمِيعِهَا.
فَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا إِلَّا فِي دَارِي بَرَّ إِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَمْ يَبِرَّ إِنْ ضَرَبَهُ فِي دَارِهِ، وَحَنِثَ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي دَارِهِ.
وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا ضَرَبْتُ زَيْدًا إِلَّا فِي دَارِي، حَنِثَ إِنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَمْ يَحْنَثْ إِنْ ضَرَبَهُ فِي دَارِهِ، وَبَرَّ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَا يَبِرُّ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فِي نَظَائِرِهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالنِّيَّةِ، فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ فِي عَقْدِ يَمِينِهِ مَا يَصِحُّ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظِهِ، فَيُحْمَلُ فِيهَا عَلَى نِيَّتِهِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِعَقْدِ يَمِينِهِ، وَلَا تَصِحُّ إِنْ تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ عَلَى الْيَمِينِ أَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهَا، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، وَيَنْوِي بِهِ شَهْرًا، وَلَا أَكَلْتُ خُبْزًا، وَيَنْوِي بِهِ لَيْلًا، وَلَا لَبِسْتُ ثَوْبًا، وَيَنْوِي بِهِ قَمِيصًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرِهِ مَا أَغْنَى، فَيَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولًا عَلَى نِيَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَفِي الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَحْمُولًا عَلَيْهَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، فَهَذَا أَصْلٌ فِي الْأَيْمَانِ لَا يُخْرِجُ أَحْكَامَهَا مِنْهُ، فَإِذَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ سَلِمَتْ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ، وَاللَّهُ يُوَفِّقُ مَنِ اسْتَرْشَدَهُ.
وَسَأُتْبِعُهُ مِنَ الْفُرُوعِ بِمَا تُوَضِّحُهُ مِنْ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ.
فَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الْفَاكِهَةَ، حَنِثَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مِنْ ثِمَارِ الْأَشْجَارِ كُلِّهَا، فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ التُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالْكُمِّثْرَى وَالسَّفَرْجَلِ وَالنَّبْقِ وَالتُّوتِ وَالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ بِالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ، وَإِنْ خَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وقالا بقولنا احتجاجاً بقوله اللَّهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمن: 68) . وقال تعالى: {فأَنْبَتْنَا فِيهَا حَباً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأبّاً) {عبس: 27 - 31) . فَجَمَعَ بَيْنَ الْفَاكِهَةِ، وَبَيْنَ الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ فِي الذِّكْرِ، وَخَيَّرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ فِي الِاسْمِ، فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا مِنِ اسْمِ الْفَاكِهَةِ، كَمَا خَرَجَ مِنْهَا الزَّيْتُونُ، لِتَمَيُّزِهِ بالاسم.