دَارَهُ، أَوْ رَهَنَهَا حَنِثَ، بِدُخُولِهَا، لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ وَقَفَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ مَلْكِ وَاقِفِهِ. وَلَوْ دَخَلَ دَارًا اسْتَأْجَرَهَا زيد من مالكها، لم يحنث بدخولها لأن حقيقية الْإِضَافَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا مَعَ إِطْلَاقِ يَمِينِهِ، وَإِنْ حَنَّثَهُ مَالِكٌ بِهَذَا كُلِّهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، فَحِنْثُهُ مَحْمُولٌ عَلَى نِيَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَانْهَدَمَتْ حَتَى صَارَتْ طَرِيقًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بدارٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَلَفَ، لَا يَدْخُلُ هذه الدار، فانهدمت وصارت عراصاً، فَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَانْهَدَمَ، وَصَارَ بَرَاحًا لَمْ يحنث.
وقال أبو حنيفة: إِذَا دَخَلَ عَرْصَةَ الدَّارِ بَعْدَ انْهِدَامِهَا حَنِثَ، وَإِذَا دَخَلَ عَرْصَةَ الْبَيْتِ بَعْدَ انْهِدَامِهِ، لَمْ يَحْنَثْ فَوَافَقَ فِي الْبَيْتِ، وَخَالَفَ فِي الدَّارِ إِلَّا أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا، أَوْ يَجْعَلَ بُسْتَانًا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَرْصَةِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعِمَارَةِ، كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ الْعِمَارَةِ كَمَا يَقُولُونَ هَذِهِ دِيَارُ عادٍ، وَدِيَارُ ثَمُودَ، وَدِيَارُ رَبِيعَةَ، وَدِيَارُ مُضَرَ، وَإِنْ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهَا، وَبَقِيَتْ عِرَاصُهَا، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ قَالَ النَّابِغَةُ:
(يَا دَارَ مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأحد)
وَقَالَ لَبِيَدٌ:
(عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا ... بِمِنًى تأبد غولها فرجامها)
(فماها داراً بعد أقواتها ... )
وَالْعَفَا: الدَّرْسُ، فَسَمَّاهَا دِيَارًا بَعْدَ دُرُوسِهَا، فَكَانَ بَقَاءُ الِاسْمِ عَلَى عَرْصهَا مُوجِبًا، لِوُقُوعِ الْحِنْثِ بِدُخُولِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا فَأُدْخِلَ مِنْهُ إِلَى عَرْصَةٍ ضِمْنَهَا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي بِنَاءٍ وَلَا صَارَ فِي عِمَارَةٍ فَكَذَلِكَ، إِذَا انْهَدَمَ جَمِيعُ بِنَائِهَا حَنِثَ بِدُخُولِ عَرْصَتِهَا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ مَعَ الْبِنَاءِ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْحِنْثِ بِذَهَابِ الْبِنَاءِ، كَالْبَيْتِ فَإِنْ قِيلَ: الْبَيْتُ لَا يُسَمَّى بَعْدَ انْهِدَامِهِ بَيْتًا، وَتُسَمَّى الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا دَارًا بِطُلَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتِلْكَ بُيُوتُّهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) {النمل: 52) فَسَمَّاهَا بَعْدَ الْخَرَابِ بُيُوتًا، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْحِنْثِ بِدُخُولِ عَرْصَةِ الْبَيْتِ، مَنَعَ مِنْهُ بِدُخُولِ عَرْصَةِ الدَّارِ، كَمَا لَوْ بَنَى الْعَرْصَةَ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ وَافَقَنَا، أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، وَلَمْ يُعَيِّنْهَا، فَدَخَلَ عَرْصَةَ دَارٍ قَدِ انْهَدَمَ بِنَاؤُهَا لَمْ يَحْنَثْ كَذَلِكَ إِذَا عينها.