وَقَتَادَةَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلَكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانَكُمْ إِذَا طَلَّقْتُمْ) {المائدة: 89) فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا " فَغَزَاهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرْ. وَقَوْلُهُ: {ذَلَكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانَكُمْ إِذَا حلفْتُمْ) {المائدة: 89) يَعْنِي: وَحَنِثْتُمْ، كَمَا قَالَ: {فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فِعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184) أَيْ: فَأَفْطَرْتُمْ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ. سَوَاءٌ كَانَ حِنْثُهُ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً.
وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي حِنْثِ الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الطَّاعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَغَيْرُ آثِمٍ فِيهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكْفِيرٍ كَالْقَتْلِ، إِنْ أَثِمَ بِهِ كَفَّرَ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِهِ لَمْ يُكَفِّرْ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُكَفِّرَ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الصَّيْدِ كَانَ مُطِيعًا فِي قَتْلِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْجَزَاءِ وَكَالْقَاتِلِ الْخَطَأِ لَيْسَ يَأْثَمُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ فِي الْحِنْثِ وَحْدَهُ لِتَعَلُّقِهَا بِحَلِّ مَا عَقَدَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أيْمَانِكُمْ) {التحريم: 2) وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابَنَا: إِنَّهَا تَجِبُ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ كَالزَّكَاةِ تَجِبُ بِالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَقْدِ الْيَمِينِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَانَ عَقَدُهَا طَاعَةً وَحَلُّهَا مَعْصِيَةً وَجَبَتْ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ، لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بالمعصية أخص والله أعلم.
قال الشافعي: " وَمَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَلَمْ يَكُنْ أَثِمَ وَكَفَّرَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلَ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى} نَزَلَتْ فِي رجلٍ حَلَفَ لَا يَنْفَعُ رَجُلًا فأمره الله أن ينفعه وبقول الله جل ثناؤه في الظهار: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً} ثم جعل فيه الكفارة وبقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فليأت الذي هو خيرٌ وليكفر عنه يمينه " فقد أمره بالحنث عامداً وبالتكفير ودل إجماعهم أن من حلف في الإحرام عمداً أو خطأً أو قتل صيداً عمداً أو أخطأ في الكفارة سواءٌ على أن الحلف بالله وقتل المؤمن عمداً أو خطأ في الكفارة سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْيَمِينُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي فَضَرْبَانِ: