قال الشافعي: " وَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الرُّمَاةِ مَنْ يَقُولُ صَاحِبُ السَّبَقِ أَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ وَالْمُسَبِّقُ لَهُمَا يُبْدِئُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ عِنْدِي إِلَّا أَنْ يَتَشَارَطَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اشْتِرَاطُ الِابْتِدَاءِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الرَّمْيِ دُونَ السَّبَقِ لِأَنَّهُمَا فِي السَّبَقِ يَتَسَاوَيَانِ فِي الْجَرْيِ مَعًا لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَأَمَّا الرَّمْيُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ وَلَا يَرْمِيَانِ مَعًا لِاخْتِلَاطِ رَمْيِهِمَا، وَلِمَا يُخَافُ مِنْ تَنَافُرِهِمَا، فَإِنْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ الْبَادِئَ مِنْهُمَا بِالرَّمْيِ كَانَ أَحَقَّهُمَا بِالِابْتِدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُبْتَدِئُ مُخْرِجَ الْمَالِ أَوْ غَيْرَ مُخْرِجِهِ فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ التَّقَدُّمَ أَنْ يَتَأَخَّرَ لَمْ يُمْنَعْ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ حَقٌّ لَهُ، وَلَيْسَ يحق عَلَيْهِ وَإِنْ أُغْفِلَ فِي الْعَقْدِ اشْتِرَاطُ الْبَادِئِ بِالرَّمْيِ، فَفِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لِأَنَّ لِلْبِدَايَةِ تَأْثِيرًا فِي قُوَّةِ النَّفْسِ، وَكَثْرَةِ الْإِصَابَةِ، فَصَارَتْ مَقْصُودَةً، فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِإِغْفَالِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، وَإِنْ غُفِلَتْ فِيهِ الْبِدَايَةُ. وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الرُّمَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الرَّمْيِ الَّذِي يُمْكِنُ تَلَافِيهِ بِمَا تَزُولُ التُّهْمَةُ فِيهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى عُرْفٍ أَوْ قُرْعَةٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مُخْرِجُ الْمَالِ أَحَدَهُمَا كَانَ هُوَ الْبَادِئَ بِالرَّمْيِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْمَالِ غَيْرَهُمَا كَانَ لِمُخْرِجِ الْمَالِ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَا مُخْرِجَيْنِ لِلْمَالِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا لِتَكَافُئِهُمَا، وَهَلْ يَدْخُلُ الْمُحَلِّلُ فِي قُرْعَتِهِمَا أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَأَخَّرُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقُرْعَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ مُخْرِجَ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ التَّقَدُّمَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَدْخُلُ فِي الْقُرْعَةِ وَلَا يَتَأَخَّرُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ مُخْرِجَ الْمَالِ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: " وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الرُّمَاةِ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي الثَّانِي يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَوَّلِ بِخُطْوَةٍ أَوْ خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ". وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ الرُّمَاةِ وَعَادَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِيهِ يَفْعَلُونَهُ تَارَةً، وَيُسْقِطُونَهُ أُخْرَى سَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَوَجَبَ التَّسَاوِي فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ جَارِيَةً لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا، فَفِي لُزُومِ اعْتِبَارِهِ بَيْنَهُمَا وجهان:
أحدهما: لا يعتبر لوجوب تَكَافُئِهِمَا فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُصِيبًا بتقدمه لا بحذفه.