وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونُوا فِي زَمَانِ الْخِصْبِ وَالسَّعَةِ.
فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِي قَوْمٍ اسْتَطَابُوا أَكْلَ شَيْءٍ كَانَ حَلَالًا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنِ اسْتَخْبَثُوا أَكْلَ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِتَحْلِيلِهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتَطَابَتِهِ، فَيَكُونُ حَلَالًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتِخْبَاثِهِ فَيَكُونُ حَرَامًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَطِيبَهُ بَعْضُهُمْ وَيَسْتَخْبِثَهُ بَعْضُهُمْ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْثَرُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَابَهُ الْأَكْثَرُونَ كَانَ حَلَالًا، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِخْبَاثِ الْأَقَلِّينَ تَأْثِيرٌ.
وَإِنِ اسْتَخْبَثَهُ الْأَكْثَرُونَ كَانَ حَرَامًا، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِطَابَةِ الْأَقَلِّينَ تَأْثِيرٌ.
وَإِنْ تَسَاوَى الْفَرِيقَانِ فِي الِاسْتِطَابَةِ وَالِاسْتِخْبَاثِ، وَلَمْ يُفَضَّلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ اعْتُبِرَتْ قُرَيْشٌ، لِأَنَّهُمْ قُطْبُ الْعَرَبِ وَفِيهِمُ النُّبُوَّةُ، وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ خُوطِبَ بِالرِّسَالَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْمُسْتَطِيبِينَ حَلَّ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْمُسْتَخْبِثِينَ حَرُمَ، وَإِنْ تَسَاوَتْ قُرَيْشٌ فِيهِمُ اعْتُبِرَتْ شِبْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَطَابُ أَشْبَهَ حَلَّ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَخْبَثُ أَشْبَهَ حَرُمَ.
وَإِنْ تَسَاوَى الْأَمْرَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، هَلْ هِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوِ الْحَظْرِ؟
أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِالْحَظْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعًا تَكَافُؤُ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ حَلَالًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَرِدَ شَرْعٌ بِالْإِبَاحَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَكَافُؤُ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ حَرَامًا، فَأَمَّا السُّنَّةُ فَتَأْتِي.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ وَلَا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، اعْتَبَرْتَ فِيهِ حُكْمَهُ فِي أَقْرَبِ الْعَرَبِ عِنْدَ مَنْ جَمَعَ الْأَوْصَافَ الْمُعْتَبَرَةَ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، فَإِنِ اسْتَطَابُوهُ كَانَ حَلَالًا، وَإِنِ اسْتَخْبَثُوهُ كَانَ حَرَامًا، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ اعْتُبِرَ حُكْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ اعْتَبَرْتَ فِيهِ حُكْمَهُ فِي أَقْرَبِ الشَّرَائِعِ بِالْإِسْلَامِ، وَهِيَ النَّصْرَانِيَّةُ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَعَلَى ما ذكرناه من الوجهين.
قال الشافعي: " وَسَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل {قُلْ لاَ أَجِدْ فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الْآيَةَ يَعْنِي مِمَّا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ وَلَمْ يَكُنِ الله