وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْهَا، وَدَلِيلٌ عَلَى مَنِ اسْتَدَامَهَا إِلَى هِلَالِ الْمُحَرَّمِ، لِاخْتِصَاصِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِهَا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: " أَلَا إِنَّهَا أَيَّامُ أكلٍ وشربٍ ونحرٍ وذكرٍ " فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّحْرِ بِجَمِيعِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ جَازَ فِيهِ الرَّمْيُ جَازَ فِيهِ النَّحْرُ كَالْيَوْمِ الثَّانِي، وَكُلَّ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ فِيهِ الرَّمْيُ لَمْ يَجُزْ فِيهِ النَّحْرُ كَالْمُحَرَّمِ، وَلِأَنَّهَا سُمِّيَتْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِتَشْرِيقِ لُحُومِ الْهَدَايَا فِي شَمْسِهَا، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهَا فِي حُكْمِهَا لَجَازَ انْطِلَاقُ اسْمِ التَّشْرِيقِ عَلَى جَمِيعِهَا، وَفِي امْتِنَاعِ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا أَدَّى إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ فَهُوَ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي الدِّينِ، ولا طريقاً إلى الأحكام، ولو صح جاز فَسْخُهُ بِمَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ، وَاقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ بِضِدِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
يَخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُضَحِّيَ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْهُمْ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ بَدَنَةً يَذْبَحُهَا فِي الْمُصَلَّى بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 2) . وَأَقَلُّ مَا يَنْحَرُهُ شَاةٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحَرَ بَعْدَ صَلَاتِهِ شَاةً عَنْ أُمَّتِهِ، وَيَتَوَلَّى نَحْرَهَا بِنَفْسِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَإِنْ ضَحَّى مِنْ مَالِهِ ذَبَحَ حَيْثُ شَاءَ، فَفَرَّقَ عَلَى مَا أَرَادَ، فَأَمَّا غَيْرُ الْإِمَامِ فَيَخْتَارُ أَنْ يُضَحِّيَ فِي مَنْزِلِهِ بِمَشْهَدِ أَهْلِهِ، لِيَفْرَحُوا بِالذَّبْحِ وَيَسْتَمْتِعُوا بِاللَّحْمِ، فَإِنْ ضَحَّى بِعَدَدٍ مِنَ الضَّحَايَا، فَيَخْتَارُ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَيَنْحَرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَعْضَهَا، لِأَنَّهُ أَطْوَلُ اسْتِمْتَاعًا بِلَحْمِهَا، فَإِنْ ضَحَّى بِرَأْسَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يَذْبَحَ أَحَدَهُمَا فِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ، وَالثَّانِي فِي آخِرِ الْأَيَّامِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الِاخْتِيَارِ فَذَبَحَ جَمِيعَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَيَخْتَارُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ أَكْبَادِهَا، وَأَسْنِمَتِهَا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّهُ مِنْ أَطَايِبِهَا.
(فَصْلٌ:)
وَلَا تَصِحُّ الْأُضْحِيَّةُ عَنِ الْحَمْلِ كَمَا لَا يُزَّكَّى عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمَا مِنْ أَمْوَالِهِمَا وَيَجِبَ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُمَا مِنْ أَمْوَالِهِمَا، لِأَنَّ الزَّكَاةَ فرض والأضحية سنة.