وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ إِلَّا الْحُوتُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي اسْمِ الْحُوتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ إِلَّا الضِّفْدِعَ، وَمَا قَتَلَ أَكْلُهُ مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِنَّ اسْمَ الْحُوتِ خَاصٌّ بِالسَّمَكِ دُونَ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا جَعَلُوهُ قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ مَا أَشْبَهَ مُبَاحَاتِ الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ حَلَالٌ، وَمَا أَشْبَهَ مُحَرَّمَاتِ الْبَرِّ مِنْ كِلَابِ الْمَاءِ وَخَنَازِيرِهِ حَرَامٌ جَمِيعًا بَيْنَ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَحَيَوَانِ الْبَحْرِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَحْرِيمِهِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ) {المائدة: 3) .
وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُحلت لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ " وَاسْمُ الْحُوتِ خَاصٌّ فِي السَّمَكِ، فَكَانَتِ الْإِبَاحَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ مَا اخْتَصَّ بِغَيْرِ اسْمِ الْحُوتِ لَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ كَالْبَرِّيِّ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ إِبَاحَتِهِ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهِ كَالْخِنْزِيرِ الْجَبَلِيِّ وَالسَّهْلِيِّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى إِبَاحَةِ جَمِيعِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ َطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَللسَّيَّارَةِ) {المائدة: 96) يَعْنِي بِصَيْدِ الْبَحْرِ صَيْدَ الْمَاءِ مِنْ بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ جَمِيعِ الْمِيَاهِ مِنَ الْبَحْرِ، وَفِي طَعَامِهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: طَافِيه، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالثَّانِي: مَمْلُوحه، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي قَوْلِهِ " مَتَاعًا " تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: طَعَامٌ.
وَالثَّانِي: مَنْفَعَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: " وللسَّيَّارَةِ " ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ.
وَالثَّانِي: الْمُقِيمُ وَالْمُسَافِرُ.
وَالثَّالِثُ: لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْقُرَى.
وَالدَّلِيلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ} يَعْنِي صَيْدَ الْبَحْرِ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جميع حيوانه.