فَأَمَّا قَوْلُهُمْ، إِنَّهُ مُسْتَفِيضُ النَّقْلِ، فَاسْتَحَالَ فِيهِ التَّبْدِيلُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْقُلَهُ جَمٌّ غَفِيرٌ، وَعَدَدٌ كَثِيرٌ يَنْتَفِي عَنْهُمُ التَّوَاطُؤُ، وَالتَّسَاعُدُ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّغْيِيرِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَسْتَوِي حُكْمُ طَرَفِي النَّقْلِ وَوَسَطِهِ.
وَهَذَا، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ حِينَ أَحْرَقَهَا بُخْتَنَصَّرُ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَفَّقُوهَا مِنْ حِفْظِهِمْ، ثُمَّ اسْتَفَاضَتْ عَنْهُمْ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِفَاضَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ فِي اسْتِفَاضَةِ نَقْلِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَفِظَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ سِتَّةٌ، فَلَمْ تُوجَدْ الِاسْتِفَاضَةُ فِي طَرَفَيْهِ وَوَسَطِهِ.
قِيلَ: لَئِنْ كَانَ الَّذِي يَحْفَظُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سِتَّةً، فَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ يَحْفَظُونَ مِنْهُ سُوَرًا أَجْمَعُوا عَلَيْهَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى صِحَّتِهَا فَوُجِدَتِ الِاسْتِفَاضَةُ فِيهِمْ بِانْضِمَامِهِمْ إِلَى السِّتَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ غَيَّرُوا التَّأْوِيلَ دُونَ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَنْكَرُوا تَغْيِيرَ التَّأْوِيلِ كَمَا أَنْكَرُوا تَغْيِيرَ التَّنْزِيلِ، وَلَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُمْ حُجَّةً فِي تَغْيِيرِ التَّأْوِيلِ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي تَغْيِيرِ التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوهُ، فَاقْتَضَى حمله على عموم الأمرين غير تخصيص
: وإن أوصى أَنْ تُكْتَبَ شَرِيعَةُ مُوسَى وَعِيسَى نُظِرَ: فَإِنْ أَرَادَ كَتْبَ شَرِيعَتِهِمْ، وَأَخْبَارَ قِصَصِهِمُ الْمَوْثُوقِ بِصِحَّتِهَا جاز؛ لأن الله تعالى: قصها عليها فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَإِنْ أَرَادَ الْكُتُبَ الْمَوْضُوعَةَ فِي فِقْهِ دِينِهِمْ لَمْ يَجُزْ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وهكذا لو أوصى بِكُتُبِ النُّجُومِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَصِيَّةً بَاطِلَةً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَلَوْ وَصَّى بِكُتُبِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا مَعَ ظُهُورِهِمَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالِانْتِفَاعِ بها، والله أعلم.