إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ جَمِيعِهِمْ، صَارَ جَمِيعُهُمْ حَرْبًا، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمَانٌ عَلَى نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَإِنْ نَقَضَهُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّاقِضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمُ الرِّضَا بِنَقْضِهِ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِالرِّضَا كَمَا انْتَقَضَ بِهِ عَهْدُ الْمُبَاشَرَةِ، وَيَصِيرُ جَمِيعُهُمْ حَرْبًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمُ الْكَرَاهَةُ لِنَقْضِهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَيَكُونُوا عَلَى عَهْدِهِمْ، وَلَا يَنْتَقِضُ فِيهِمْ بِنَقْضِ غَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: 165] .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمْسِكُوا عَنْهُ، فَلَنْ يَظْهَرَ مِنْهُمْ رِضًا بِهِ، وَلَا كَرَاهَةٌ لَهُ فِي قَوْلٍ، وَلَا فِعْلٍ، فَيَكُونُ إِمْسَاكُهُمْ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وَكَذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عَاقِرِ نَاقَةِ صَالِحٍ بَاشَرَ عَقْرَهَا أُحَيْمِرٌ وَهُوَ الْقُدَارُ بْنُ سَالِفٍ وَأَمْسَكَ قَوْمُهُ عَنْهُ فَأَخَذَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِذَنْبِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فسواها، ولا يخاف عقباها} [الشمس: 14 و 15] ، وفي قوله: {فسواها} ثلاثة تأويلاتل:
أَحَدُهَا: فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْهَلَاكِ.
وَالثَّانِي: فَسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضَ.
وَالثَّالِثُ: فَسَوَّى بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ
وَفِي قَوْلِهِ: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: وَلَا يَخَافُ اللَّهُ عُقْبَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ.
وَالثَّانِي: وَلَا يَخَافُ الَّذِي عَقَرَهَا عُقْبَى مَا صَنَعَ مِنْ عَقْرِهَا.
وَالثَّالِثُ: وَلَا يَخَافُ صَالِحٌ عُقْبَى عَقْرِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَنْذَرَهُمْ، وَنَجَّاهُ اللَّهُ حِينَ أَهْلَكَهُمْ، وَقَدْ وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ بِقَتْلِهِ، فَجَعَلَهُ نَقْضًا مِنْهُمْ، لِعَهْدِهِ، فَغَزَاهُمْ، وَأَجْلَاهُمْ.
وَوَادَعَ يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَعَانَ بَعْضُهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَنْدَقِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَعَانَهُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ: حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَأَخُوهُ، وَآخَرُ فَنَقَضَ بِهِ عَهْدَهُمْ، وَغَزَاهُمْ، حَتَّى قَتَلَ رُمَاتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ.
وَهَادَنَ قُرَيْشًا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ بَنُو بَكْرٍ فِي حِلْفِ قُرَيْشٍ، وَخُزَاعَةُ فِي حِلْفِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَارَبَ بَنُو بَكْرٍ خُزَاعَةَ، وَأَعَانَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَأَمْسَكَ عَنْهُمْ سَائِرُ قُرَيْشٍ، فَجَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نقضا لعهد جميعهم، فسار إليهم