فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لِمَنْ عَدَاهُمَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ كَاتَبَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، قَالَ فِي كِتَابِهِ إِلَى قَيْصَرَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيننا وبينكم أن لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} ^ [آل عمران: 64] .
فَجَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكْتُبْ إِلَى كِسْرَى بِهَذَا، وَكَتَبَ " أَسْلِمِ تَسْلَمْ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " وَلَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ لَاسْتَغْنَى عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَلِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلَمَّا غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ سُرَّ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ سَتَغْلِبُونَا، لِأَنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ غَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ، وَالرُّومُ أَهْلُ كِتَابٍ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَسَاءَهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم بعد غلبهم سيغلبون فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم: 1 - 5] . فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَبَادَرَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسًا، وَتَقَامَرَ أَبُو بَكْرٍ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَلَى هَذَا بِأَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَكَانَ الْقِمَارُ يَوْمَئِذٍ حَلَالًا، فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدَّرَ لَهُمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ، أَنْكَرَهَا، وَقَالَ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ " قَالَ: ثِقَةٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَكَمِ الْبِضْعُ؟ قَالَ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرِ. فَقَالَ لَهُ: زِدْهُمْ فِي الْخَطَرِ، وَازْدَدْ فَيَ الْأَجَلِ فَزَادَهُمْ قَلُوصَيْنِ وَازْدَادَ مِنْهُمْ فِي الْأَجَلِ سَنَتَيْنِ، فَصَارَتِ الْقَلَائِصُ سِتًّا، وَالْأَجَلُ خَمْسًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ الْهِجْرَةَ عَلِقَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي كَفِيلًا بِالْخَطَرِ إِنْ غَلَبْتُ، فَكَفَلَ بِهِ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْجَزَ وَعْدَهُ فِي غَلَبَةِ الرُّومِ لِفَارِسَ فِي عَامِ بَدْرٍ، وَنَصَرَ رَسُولَهُ عَلَى قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ النَّصْرَانِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَعُلِمَ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْفُرْسَ، وَهُمُ الْمَجُوسُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ، وَأَنَّ الرُّومَ مِنَ النَّصَارَى هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، لَظَهَرَ فِيهِمْ كَظُهُورِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَجَرَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ اسْتِبَاحَةِ مَنَاكِحِهِمْ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فَدَلِيلُنَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: قَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ.