قَالَ: " لَمْ تَحِلَّ لِي غَنَائِمُ مَكَّةَ " وَالْعَنْوَةُ تُوجِبُ إِحْلَالَ غَنَائِمِهَا، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِهَا صُلْحًا، وَفَقَدَتْ أُخْتُ أَبِي بَكْرٍ عُقْدًا لَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَهَبَتْ أَمَانَاتُ النَّاسِ، وَلَوْ حَلَّتِ الْغَنَائِمُ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ خِيَانَةً، تَذْهَبُ بِهَا الْأَمَانَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ تَحِلَّ غِنَائِمُهَا؛ لِأَنَّهَا حَرَمُ اللَّهِ الَّذِي يُمْنَعُ مَا فِيهِ، فَعَنْهُ ثَلَاثُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عُمُومَ قَوْلِ الله تعالى: {واعلموا أنما ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَرَمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعِ الْحَرَمُ مِنَ الْقَتْلِ، وَهُوَ أَغْلَظُ مِنَ الْمَالِ، حَتَّى قَتَلَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ قَتَلَ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ غَنَائِمِ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ مَنَعَهُمُ الْحَرَمُ مِنْ ذَلِكَ لَمَا احْتَاجُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَمَانٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْمَالِ أَعْظَمُ حُرْمَةً، مِمَّا فِي مَنَازِلِ الرِّجَالِ
وَقَدْ رَوَى مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ وَجَدَ فِي الْكَعْبَةِ مَالًا كَانَتِ الْعَرَبُ تُهْدِيهِ، فَقَسَّمَهُ فِي قُرَيْشٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَاهُ لِلْعَطَاءِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ، ثُمَّ دعى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَقَالَ: خُذْ كَمَا أَخَذَ قَوْمُكَ، فَقَالَ حَكِيمٌ: آخُذُ خَيْرًا أَوْ أَدَعُ قال: بل تدع قال: ومنك؟ قَالَ: وَمِنِّي " الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى " فَقَالَ: حَكِيمٌ لَا آخُذُ مِنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ أَبَدًا، فَلَمَّا لَمْ تَمَنَعِ الْكَعْبَةُ مَا فِيهَا وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ بِهَا كَانَ الْحَرَمُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مَا فِيهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَا فِي الْحَرَمِ أَمْوَالٌ لِمَنْ قَدِ اسْتَأْمَنُوهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَمَانِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا فِي الْكَعْبَةِ مَالٌ لِمُسْتَأْمَنٍ لَمْ يَحْرُمْ عليه بالأمان.
فإن قيل: إنما لم يغنمها، وإن ملك غنائمها؛ لِأَنَّهُ عَفَا عَنْهَا كَمَا عَفَا عَنْ قَتْلِ النفوس، فهل يجوز له وللأمة بعده أن يعفو عَنِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِالْمَصْلَحَةِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْغَنَائِمِ، إِلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِ الغانمين؛ لأن مِنْ حُقُوقِهِمْ، أَلَّا تَرَاهُ لَمَّا أَرَادَ الْعَفْوَ عن سبي هوازن استطاب نفوس الغانمين، حتى ضمن لمن لم تطب نفسه بِحَقِّهِ سِتَّ قَلَائِصَ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، وَمَا اسْتَطَابَ فِي غَنَائِمِ مَكَّةَ نَفْسَ أَحَدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُمْلَكْ لِأَجْلِ الْأَمَانِ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الصُّلْحُ، فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إِلَى اسْتِطَابَةِ النُّفُوسِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْفُذُ السَّرَايَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَا حَوْلَهَا مِنْ عَرَفَاتٍ وَغَيْرِهَا، فَيَأْتُوهُ بِغَنَائِمِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمَانٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ يَعْتَمِدُهُ أَنَّ نَقْلَ الْمُوجِبِ يُغْنِي عَنْ نَقْلِ الْمُوجَبِ وَمُوجِبُ الْعَنْوَةِ الْقَتْلُ وَالْغَنِيمَةُ، وَمُوجِبُ الصُّلْحِ الْعَفْوُ وَالْمَنُّ، فَلَمَّا عَفَا وَمَنَّ، وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَغْنَمْ، وَأَنْكَرَ حِينَ رَأَى خَالِدًا قَدْ قُتِلَ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى الصُّلْحِ، وَمَانِعًا مِنَ الْعَنْوَةِ وَصَارَ الصُّلْحُ كَالْمَنْقُولِ لِنَقْلِ مُوجِبِهِ مِنَ الْعَفْوِ.