وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا بُدِئَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ وَجَبَ أن يكون على ترتيب مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى التخيير لبدئ فيها بالأخف من كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِتَرْتِيبِهَا فِي صِفَةِ التَّرْتِيبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا قتل قتل، وإن أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وإذا قتل وأخذ المال قتل وقطع، وَنَفْيُهُمْ أَنْ يُحْبَسُوا فِي بَلَدِهِمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ الْبَطْشِ وَالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَفُّ عَنِ التَّدْبِيرِ إِلَّا بِالْقَتْلِ، وَتُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَطْشِ وَالْقِتَالِ دُونَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ؛ لأنه يتعطل، وإن كان مكثراً لَا تَدْبِيرَ فِيهِ وَلَا قِتَالَ نُفِيَ وَنَفْيُهُ أَنْ يُخْرَجَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ يُحْبَسُ فِيهِ فَاعْتَبَرَ الْحَدَّ بِصِفَةِ الْفَاعِلِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ وَهُوَ ضِدُّ مَا وُضِعَتْ لَهُ الْحُدُودُ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَلَا يُقْتَلُ مَنْ قَتَلَ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ وَلَمْ يُصْلَبْ، وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ وَلَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتِلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ عُزِّرَ، وَنَفْيُهُمْ أَنْ يُطْلَبُوا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيَهْرُبُوا.
فَأَمَّا أَبُو حنيفة فمخالف فِيهِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نَقْتُلُهُ بِالْقَتْلِ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِي أَخْذِ الْمَالِ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، بين أن يقطع يده ورجله ولا يصلب، وَبَيْنَ أَنْ يَصْلِبَهُ وَلَا يَقْطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقْطَعُ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَيَصْلِبَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْحُدُودَ إِذَا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ جَمِيعِهَا كَالزِّنَا والسرقة يجمع فيه بين الحد وَالْقَطْعِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْسٌ يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك الْعُرَنِيِّينَ وَهُمْ مِنْ بَجِيلَةَ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جِبْرِيلَ عَنِ الْقِصَاصِ فِيمَنْ حَارَبَ فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ فَاقْطَعْ يَدَهُ لِسَرِقَتِهِ وَرِجْلَهُ لِإِخَافَتِهِ، وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ فَاصْلُبْهُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بُرْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ فَجَاءَ نَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فقطع عليهم أصحابه، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ