الله، وَلَيْسَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِإِجْمَالِهِ، وَيَكُونَ حُكْمُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ تَفْسِيرٌ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنَ السُّنَّةِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِهِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَضَمَّنَتَا حَدًّا مَفْهُومًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْأُولَى مِنْ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ مَعْلُومٌ، وَمَا فِي الثَّانِيَةِ مِنَ الْأَذَى بما ضر من فعل أو قول مفهوم يتقرر الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَالتَّعْزِيرِ ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِالنَّسْخِ بِمَا وَرَدَ مِنْ جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هَلْ وَرَدَتَا فِي حَدِّ الْبِكْرِ أَوْ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُمَا وَرَدَتَا مَعًا فِي حَدِّ الْبِكْرِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ هَذَا فِي سَبَبِ تَكْرَارِهِ فِي الْآيَتَيْنِ، فقال أبو الطيب: إن الْأُولَى فِي أَبْكَارِ النِّسَاءِ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَبْكَارِ الرجال.
وقال غيره: لأن الْأُولَى فِي الْبِكْرِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَالثَّانِيَةَ فِي الْبِكْرِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَدُّ الْبِكْرِ في هاتين الآيتين منسوخاً بما ورد فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَيَكُونُ حَدُّ الثَّيِّبِ بِالرَّجْمِ فَرْضًا مُبْتَدَأً لَمْ يُنْقَلْ عَنْ حَدٍّ مَنْسُوخٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَتَيْنِ مَعًا وَرَدَتَا فِي حَدِّ الثَّيِّبِ ثُمَّ نسخت بالرحم، وحد البكر فرض مبتدأ بمائة جلدة وردت فِي سُورَةِ النُّورِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ حَدٍّ مَنْسُوخٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ الأولى في قوله تعالى: {فأمسكوهن في البيوت} وَارِدَةٌ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ وَنُسِخَتْ بِالرَّجْمِ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَآذُوهُمَا} وَارِدَةٌ فِي حَدِّ البكر ونسخت بجلد مائة، فيكون كلا الحدين مِنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْقُولَيْنِ عَنْ حَدَّيْنِ مَنْسُوخَيْنِ أَمَّا الْجَلْدُ فِي نَسْخِهِ الْأَذَى مِنَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ؛ لِأَنَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ فَهُوَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا الرَّجْمُ فِي نسخه بإمساكهن في البيوت من الآية الأولى فنسخه يترتب على أصل الشافعي مقرراً وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةُ تُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَلَيْسَتِ السُّنَّةُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ مِثْلَ القرآن إلا القرآن دليل على أن لَا يَجُوزَ نَسْخُ الْقُرْآنِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ.
وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا هَلْ كَانَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ حَتَّى حَظَرَهُ الشَّرْعُ؟ على وجهين: